مكافحة الفساد "معقود بنواصيها الخير "
بات الحديث عن الفساد على كل لسان، فهل تنجح هيئة مكافحة الفساد في قيادة المركب إلى بر الأمان؟
معيقات كثيرة، وأعباء أكثر. فمن معيقات خارجية تتمثل بالنقد الذي تتعرض له الهيئة إلى معيقات داخلية تتمثل في محدودية المصادر المتاحة. أما الأعباء فتتمثل بالكم الهائل من الملفات المفتوحة حيث لا شيء يمنع من فتح أي ملف طالما فيه مصلحة للوطن أو المواطن.
لطالما تعرضت هيئة مكافحة الفساد للنقد والهجوم، تارة من دعاة الإصلاح الذين يشككون في قدرة الهيئة على إنجاز الكم الهائل من عمليات القلب المفتوح في آن واحد؛ وتارة ممن يرون في الهيئة تهديدا لمصالحهم وتقييدا لقدرتهم على التغول في المال العام؛ وآخرون لا يزالون يجلسون هناك وراء الكواليس– لا يعلمهم إلا قليل من المظلومين - جعلتهم الهيئة يفكرون في الهجرة أو تهريب أموالهم تحسبا لأي طارئ أو خوفا من أن تظهر صورهم في رؤيا صادقة قد يراها معالي سميح بينو في منامه.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن كثيرا من الجهات رقابية التي لولا تقصيرها في مسؤولياتها لما احتجنا إلى تأسيس هيئة لمكافحة الفساد. تقوم بعض هذه الجهات بالمماطلة والتلكؤ معتبرة أن ما تقوم به هيئة مكافحة الفساد هو تدخل في صلاحياتها، ولهذا وجدت في ذلك ذريعة فتركت الحبل على الغارب وألقت السلاح، وقالت لهيئة مكافحة الفساد كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: "إذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون ".
وتتزايد الأعباء.. ففي حين انشغلت جهات حكومية بارزة بقضايا محدودة (كشاهين والكازينو) حتى أصبحت هاتان القضيتان الشغل الشاغل للرأي العام وكأنه لا يوجد لدينا عمل سواهما؛ نرى أن هيئة مكافحة الفساد تحقق في قضايا بمجموعها أكبر بكثير من هاتين القضيتين، كما توسّع الهيئة دائرة التغطية لتشمل قضايا الفساد في مؤسسات القطاع الخاص، فهناك العشرات من ملفات الشركات المفتوحة في هيئة مكافحة الفساد والتي يتقدم العمل والانجاز فيها يوما بيوم رغم أن بعضها يتضمن ملفات غاية في التعقيد.
وليس أدل على ما سبق ما حدث في ملف شركة أموال إنفست. فبناء على شكوى وردت إلى الهيئة من بعض المساهمين قامت هيئة مكافحة الفساد بالتحقيق في القضية منذ أكثر من شهرين. ولأن التحقيق لا يكتمل دون معلومات وتقارير من الجهات ذات علاقة؛ رفعت دائرة مراقبة الشركات تقريرها منذ تاريخ 11/6/2011 بينما لا زالت هيئة الأوراق المالية إلى الآن لم تقدم تقريرها النهائي رغم أنه اكتمل منذ أكثر من شهر بعد ذهاب وإياب وشد وجذب مع شركة التدقيق، ثم أن التقرير الآن بين يدي المستشار القانوني لهيئة الأوراق المالية ولا أحد يعلم سر كل هذا التأخير. علما بأن أحد موظفي الهيئة قد صرح قبل ما يزيد على شهر بأن ملف التدقيق على الشركة جاهز ولكن بسبب الاعتصام لم يتم عرضه على مجلس مفوضي هيئة الأوراق المالية.
وبناء على ما توفر لدى هئية مكافحة الفساد من معلومات من دائرة مراقبة الشركات ومن خلال اللجنة الحكومية التي تدير الشركة حاليا – علما بأن هذه المعلومات لا تغطي كل المخالفات والتجاوزات التي حدثت من قبل إدارة الشركة، فالمعلومات المتوفرة لغاية الآن تكفي لكي تقررت هيئة مكافحة الفساد وضع أموال البعض تحت الحجز التحفظي اعتبارا من 28/6/2011، ولكن بدلا من أن تقوم هيئة الأوراق المالية بالإفصاح بشكل رسمي عن هذا القرار قامت بتوزيعه على مواقع إلكترونية مختارة. فها هي هيئة مكافحة الفساد تحقق وتقرر وتقوم بالعمل نيابة عن هيئة الأوراق المالية؛ ولكي تكمل هيئة مكافحة الفساد دورها في حماية سوق المال الأردني وسمعته من عبث فئة غير قادرة على التفكير في المصلحة العامة أقترح أن تقوم هيئة مكافحة الفساد كذلك بنشر الافصاحات في موقعها الالكتروني نيابة أيضا عن هيئة الأوراق المالية؛ لأن موظفي الهيئة قد تركوا السوق وغادروا المبنى الشهير ويعيشون حاليا في مضاربهم في الخيمة أمام مبنى الهيئة ليعلنوا أنهم لا يريدون العدالة بين موظفي الدولة في الرواتب، وبدلا من أن ينشروا في الموقع الالكتروني للهيئة الافصاحات التي تخدم الآف المستثمرين الأردنيين والأجانب، فهي تقوم باستغلال الموقع الإلكتروني من أجل الاعلان عن الاعتصام لبث الرعب في قلب أي مستثمر أجنبي تحدثه نفسه أن يستثمر في الأردن.
وعلى أية حال، فإن الوقت القصير الذي استطاعت فيه هيئة مكافحة الفساد الامساك بجميع خيوط ملف شركة أموال إنفست يشير إلى أنها قادرة وفي وقت قياسي من الامساك بجميع الأشخاص الذين أضروا بسوق عمان المالي وعددهم لا يتجاوز أصابع اليد ووضع حد لتصرفاتهم وعبثهم بمدخرات المستثمرين وتعريضهم لسمعة الاستثمار في الأردن للخطر. فنأمل أن تتمكن هيئة مكافحة الفساد في شهور معدودة من إصلاح ما أفسدته هيئات رقابية أخرى في الفكر والسلوك الاستثماري في الأردن.
وختاما، رغم كل هذه المعيقات والأعباء التي نعلم بعضها، وضغوط أخرى لا يعلمها إلا أولئك الرجال الذين يعملون داخل الهيئة؛ فإن بعض المتشائمين يقولون أن الهيئة تنفخ في (قربة مخزوقة): ولكن هل يعجز الأردن أن يلد رجالا يقومون (برثي) هذه القربة. ولئن رأى بعضهم أن الهيئة تمشي مشية السلحفاة، ولكنها في حقيقة الأمر تمشي بخطى ثابتة وستصل بهذا الوطن– بعد توفيق الله – إلى بر الأمان، ثم أن هذا يحتاج إلى أن يبقى دعم جلالته للهيئة موصولا وأن تعزز كوادرها باستمرار بالطاقات والكفاءات التي تكفي لانجاز حجم العمل المطلوب. وأقول للمتشائمين، من خلال تجربتي الخاصة بعد أن قدر لي زيارة هيئة مكافحة الفساد خلال الفترة الماضية: كم كنت قبل الزيارة متشائما لما سمعت عن حجم الفساد المنتشر لدرجة أني أصبحت أشك بأن أي طاولة في أي مكتب لو قلبت لوجدنا تحتها فسادا؛ ولكن سرعان ما اكتشفت أن هذا غير صحيح وأن وطني فيه وفي أبنائه الخير الكثير وستبقى نساء الأردن يلدن رجالا شرفاء يحملون رسالة الوطن ويتحملون المسؤولية مهما كانت الصعاب، لقد وجدت في الهيئة رجالا يعملون بصمت وأمانة وحرص على الوطن ومستقبلة وحقوق المواطنين وعلى الاقتصاد والاستثمار فيه؛ يعملون بحيادية: ولا يسمحون أثناء الإفادات والتحقيقات بالإساءة لأي شخصية، صغيرة كانت أو كبيرة؛ ويعملون بفكر جمعي وليس فردي: فلم أر أي تحقيق أو إفادة تمت إلا وكانت لجنة التحقيق تضم ثلاثة أشخاص فأكثر. وهم بهذا السلوك يثبتون أنهم محل الثقة الملكية التي منحهم إياها جلالة الملك عبدالله ابن الحسين، وأنهم يسيرون وفق توجيهاته السامية، وهم بذلك يكونون بحق محل ثقة واحترام .