الحفيد الذي حملني على كتفيه *
بقدر ما هي الارض واسعة وفضاءاتها شاسعة تصغر احيانا لتصبح اضيق من ظل رمح، فالانسان هذا النائم الذي اذا استيقظ مات له ذاكرة وخيال هما توأما الرحلة العابرة، وبقدر ما تعذبه الذكريات يلوذ بالخيال كي ينجو وقد يبني امبراطوريات ويوتيوبيات وحين يترجل من مرتفعات الوهم يدرك على الفور بان ما تخيله وشيده مجرد بيوت رمل على شاطئ العدم، ويتصرف كمقيم وابدي وهو العابر الذي لا ينافس شجرة او سلحفاة في البقاء على قيد الوجود.. ولو فكر لدقيقة واحدة بشروط اقامته على هذا الكوكب لما نفش ريشه كالطاووس ولما صعر خده كما كان اسلافنا العرب يقولون ولمشى الهوينا على هذا الاديم الذي ليس في حقيقته غير ما تبقى من رفات البشر.
انه يهرول بين وتدين شد بينهما حبل او وتر.. فلا يبلغ الملاك ولا يصبح شيطانا وتبقى المراوحة هي قدره.. فلا هو هنا ولا هناك، ولا في الجحيم ولا في الفردوس كما ان الهامش الضيق بينهما والذي سماه دانتي اللمبو او المنطقة الحرام بين النار والجنة لا يصلح مكانا ابديا للاقامة..
ويحتاج الانسان الى عطلة خاصة وشخصية ولو مرة في العام كي يقرأ هذا الكون باجرامه ومجراته وفضاءاته ليدرك كم هو اصغر من قشة في سلسلة جبال لا نهائية الحديد والصخر وما ترسب في باطن التراب من جذور ناشفة! وكما ان الحرب لا يعرفها الا من ذاق مراراتها فان الفقدان كذلك، فنحن احيانا نضجر مما نملك ونشعر بالبطر كما لو اننا عقدنا مع الزمان مقايضة او طوينا في جيوبنا بوليصة تأمين ضد الشيخوخة والزوال.
اتذكر قصيدة موجعة للشاعر روبرت فروست يرثي بها صبيا، يقول ان الناس ينشغلون عن الموت لحظة حدوثه باتفه تفاصيل الحياة نشدانا للنسيان وبمعنى ادق للتناسي.
لهذا فهم يدفنون فكرتهم عن الزوال باسرع مما يدفنون موتاهم، وينتهي الامر بان ينفضوا عن احذيتهم غبار المقابر لكن ما تراكم في عقولهم وقلوبهم من صدأ الوقت لا تصل اليهم الاصابع!
كم هم مساكين واجدر بالشفقة من المتسولين او المشلولين هؤلاء الذين يتوهمون الخلود وان الشقاء هو من حصة الاخرين وكذلك الفقدان، فهؤلاء يستحقون الشفقة لانهم لا يدركون الموت الا اذا وثب من نوافذهم او كسر زجاجهم وفاجأهم في عز سباتهم الذهني، انهم اشبه بالديناصور الذي انقرض لان الجرح الذي يحدث في اي عضو من جسده لا يصاحبه الم يحس به الدماغ.
فالحيوان وحده هو الذي يموت عندما يموت فقط، وان كانت هناك حيوانات كالفيلة تستشعر النهائية وتسعى هي نفسها في جنازاتها عندما تقرر الذهاب الى قبورها وكلما تقدم بنا العمر استطالت قائمة الفقدان لكن هذا لا يحول دون الاصغاء الى الصوت الاخر البكر القادم من الافق الاخر.
فمن يولدون اضعاف من يموتون لهذا يعاني العالم من فائض ديمغرافي، وقد حدث قبل اعوام قليلة ان فقدت صديقا بل توأم روح وقلب.. فلم اجد ما الوذ به غير حفيدة عمرها عام.. وشعرت انها تحملني على كتفيها الصغيرين ولا احملها وارسلت يومها رسالة الى الباقي محمود درويش اقول له ان اخر المفارقات التي كنا نرصدها ونتسلى بها اكتشافي ان حفيدتي هي جدتي.
بالامس، فقدت اخي، وتكررت المفارقة فحملني على كتفيه حفيد اخر عمره اقل من عام.(الدستور)