في الأردن.. الحقوق والحريات أولاً
أنهت اللجنة الملكية لتطوير المنظومة السياسية أعمالها في انتظار تقديمها للعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني للمصادقة عليها، وأحالتها للحكومة للمباشرة في العمل عليها.
بالتزامن مع تقديم مخرجات اللجنة الملكية التي يُراهن أن تكون مدماكا للإصلاح السياسي، دشن ناشطون وناشطات، ومؤسسات مجتمع مدني "عاصفة إلكترونية" للتعريف والدفاع عن حقوق الإنسان، وخلال ساعتين من انطلاقها على منصات التواصل الاجتماعي أصبحت "الهاشتاغات" التي اعتمدتها الحملة وهي: انتهاكات حقوق الإنسان، ومعا للتغيير، وحقوق مش مكارم، "التريند" الأول والثاني والثالث في الأردن.
توقيت العاصفة الإلكترونية مرتبط بالجدل الدائر في الأردن، والسؤال المُلّح والجوهري، كيف تريدون إنجاز إصلاح سياسي، بتعديل قانوني الانتخاب، والأحزاب، والحديث عن تمكين المرأة والشباب، ومنظومة حقوق الإنسان وفي مقدمتها الحريات العامة غير مُصانة؟
هذا النقاش ليس ترفا فكريا وسياسيا، والحقوق التي يتحدث عنها الناس، بمعزل عن المؤسسات المدافعة عن حقوق الإنسان، ترتبط بحقوق أساسية مثل التعليم، والصحة، والحماية الاجتماعية، وهي تتعلق بصيرورة حياتهم اليومية، وهي تتقدم وتأتي أولا.
ليس بعيدا عن هذا الجدل والمشهد، عاش الأردنيون والأردنيات حوادث مروعة تتلخص بثلاث وفيات نتيجة أخطاء طبية، وتقصير وإهمال حسب تقارير لجان صحية حكومية، وهو ما أعاد للأذهان مأساة مستشفى السلط الحكومي التي أودت بحياة مرضى بسبب انقطاع الأوكسجين في غرف العزل لمرضى جائحة كورونا قبل أشهر.
يحفظ الأردنيون عن ظهر قلب الشعار الذي كان يتغنى به العاهل الأردني الراحل الملك الحسين، "الإنسان أغلى ما نملك"، وحدثني مدير الخدمات الطبية الملكية الأسبق، الباشا الدكتور يوسف القسوس أن الملك الراحل اتصل به في أحد الأيام غاضبا، وطلب الاجتماع على الفور بالكوادر الطبية في مدينة الحسين -أكبر المستشفيات التابعة للقوات المسلحة-، وكان ممتعضا لأن إسرائيل سبقت الأردن بالإعلان عن نجاح بعض عمليات الزراعة الطبية.
حينها كانت الخدمات الطبية الملكية الأولى في المنطقة في عمليات زراعة القلب، وكان الأردن مضرب المثل في نهضته الطبية، واليوم تواجه المنظومة الصحية تدهورا، وتراجعا غير مسبوقين.
المسألة إذن ليست محصورة في تظاهرات واعتصامات تُمنع، أو تتعرض أحيانا للتفريق بالقوة، بل انتهاكات تمتد إلى تفاصيل حياة الناس، والتغريدات التي نشرها النشطاء على السوشيل ميديا كشفت الكثير من تجاوزات وعورات الحكومة.
في الأسبوعين الماضيين، أطلق مركز حماية وحرية الصحفيين حملة مناصرة لدعم حقوق الإنسان سلطت الضوء على حقوق بعضها منسية، مثل التحاق الأشخاص ذوي الإعاقة بالتعليم، فالأرقام تقول إن 42 بالمئة من الأشخاص ذوي الإعاقة لا يتلقون تعلميهم، وخلال جائحة كورونا انضم 76 ألف طفل لسوق العمل لعجزهم عن اللحاق بالتطور التكنولوجي بقطاع التعليم، في حين أن الشواهد تتحدث عن تعرض 81 بالمئة من الأطفال إلى أسلوب عنيف لتهذيبهم.
في التفاصيل ما يعطي الحق للمشككين بجدية الإصلاح ما دامت الحقوق والحريات تُنتهك، والأمثلة الصارخة على ذلك متعددة، أكثرها فجاً أن ما يزيد عن 21 ألف شخص تعرضوا للتوقيف الإداري دون أوامر قضائية عام 2020، وهذه العقوبة التي يوعز بها الحكام الإداريون، فيها تجاوز على سلطة القضاء، ومبدأ الفصل بين السلطات، وتستند في تنفيذها لقانون منع الجرائم المستخدم منذ عقود رغم كل المطالبات الحقوقية بضرورة إلغائه أو تعديله على الأقل.
وفي التفاصيل أيضا أن أكثر من 50 بالمئة من القوى العاملة في الأردن لا يخضع لأي مظلة تأمينية، في وقت بلغت فيه نسبة البطالة 25 بالمئة في بداية العام الجاري.
يُقدم الدستور الأردني نصوصا تصون الحقوق، فتأتي القوانين والأنظمة لتهدرها بشكل سافر تحت ضوء النهار، فالأردنيون متساوون بالحقوق والواجبات، هذا النص الدستوري الصريح لم يمنع التمييز بين الرجال والنساء، فالمرأة تُحرم بموجب القانون من منح جنسيتها لأبنائها وبناتها، حين يكون زوجها غير أردني، وهذا لا ينطبق على الرجال الذين يتزوجون نساء غير أردنيات.
ويضمن قانون الاجتماعات العامة لمؤسسات المجتمع المدني الحق في تنظيم المؤتمرات، والملتقيات، وورشات التدريب شريطة إخطار (المحافظ، الحاكم الإداري) بذلك، ورغم وضوح النص فإن العديد من الأنشطة تُرفض دون تسبيب وتعليل بمخالفة صريحة للقانون، وأحيانا تُفرض على مؤسسات المجتمع المدني شروط وطلبات تعجيزية، وبعضها يدعو للضحك والسخرية.
أنظمة الإعلام التي تراجعت عنها الحكومة الأردنية مؤخرا نموذج على تناقض الممارسات مع الخطاب الداعي للإصلاح وتطوير المنظومة السياسية، فأنظمة الإعلام كانت مؤشرا مقلقا على أن الإرادة السياسية للإصلاح ليست متوفرة، وإلا كيف تريد الدولة أن تدعم حرية العمل الحزبي، وهي تسعى لإغلاق الفضاء الرقمي، حين تريد هيئة الإعلام ترخيص البث عبر الإنترنت، وبالتالي إغلاق آخر معقل للناس للتعبير عن آرائهم بحرية على منصات التواصل الاجتماعي؟
كان يُفترض أن تقدم الحكومة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف تقرير منتصف المدة للاستعراض الدوري الشامل لحقوق الإنسان -غير إلزامي- وهو كشف حساب لما أنجزته في التوصيات التي قُدمت لها في آخر مراجعة أممية في نوفمبر عام 2018، غير أنها اعتذرت عن ذلك.
واقع الحال، استنادا لتقرير ظل قدمته مجموعة من مؤسسات المجتمع المدني لآلية الاستعراض الدوري الشامل، يُظهر أن ما نُفذ من 149 توصية وافقت عليها الدولة الأردنية متواضع جدا حتى الآن، ولا يزيد عن 2 بالمئة، في حين أن 101 توصية قيد التنفيذ، و45 توصية لم يتم التعامل معها، أو تنفيذها.
أزمة الثقة بالحكومات ممتدة منذ عودة الحياة البرلمانية عام 1989، وكلما قدمت الحكومات وعودا، كذبها الناس وشككوا بنواياها، وأداروا ظهورهم لها، وما لم تحفظ الدولة حقوقهم الأساسية وتصونها ولا تهدرها، فإن حديث الإصلاح بالنسبة لهم ليس أكثر من وهم لا يشترونه.
المصدر : الحرة