الوالي الرؤوف يخرج عن المألوف
بلغت رقعة المملكة العباسية في أوج جبروتها، اتساعا جعل الجباية تصلها من وراء النهر والمغرب والأقصى، ويقال إن ابن خلدون أحصى الخراج أيام المأمون وحسبه بالإقليم إقليما إقليما، فبلغ مجموعه ما يزيد على الأربعمائة مليون درهم، وفوق هذا فكان الخلفاء في صدر الدولة العباسية يمتلكون حرية التصرف بالأموال، ويوظفون أمزجتهم في منح الهبات والأعطيات لرجالهم وحاشيتهم ومن راق لهم، حسب ائتلاف الأرواح حينما تتعارف تتآلف وحينما تتناكر تتخالف وحسب التوافقات.
ويا سعد من تآلفت روحه مع روح الحاكم أو الخليفة أو نسيب الحاكم ولكن دون التفكر بالنتائج، بذلك يصبح هؤلاء أصحاب دولة ومجد ويورثون المناصب والمال والمأوى المشهود لأبنائهم وأحفادهم.وتستمر الشروط ويبقى الوطن من خلال وظائفهم مربوطا مربوطا.
وعند مراجعة أخبار بعض وزراء الدولة العباسية في سراج الملوك للطرطوشي، نجد أن راتب الوزير في الدولة العباسية كان أضعاف راتب الوزير في الدولة الأموية، وهو أضعاف راتب الحاكم في أيام الخليفة عمر بن الخطاب الذي كان في صدر الإسلام ستمائة درهم في الشهر، وكانت الخزينة أيضا تعج بالمال المرشوش على الحواشي عن طريق الموارد الإنتاجية للبلح والتمر والجوز واللوز وصناعة القوارب والسفن، ممتصا من شريانات الشعب المطردة بالمخالفات وضرائب وسبل الجباية المبتكرة والتي يخترعها المقربون المستفيدون من الحاكم وحواشيه، و كان للمصادرة المالية من الشعب شأن كبير.
كانت تلك المصادرة هي الجزية المركبة حيث تحصل من الوزير والوزير يحصلها من الحكام « العمال « والحكام يحصلونها من الرعية، ولو نظرنا إلى أخبار ما كان بعض الوزراء يقبضونه كتجليات خاصة من الخليفة لوجدنا أن طبقة من سائر الكبراء انتعشت على أرض الدولة وترسخت بلا سبب جوهري،إنما بعضها وأكثرها تم نتيجة ظروف ومواقف طارئة. ولكن ظل للخليفة هامش الخضوع للسلطة السرية الفوقية والتي تدير عقليته ضد موارد وثروات وحقوق أملاك الدولة، فيظل لهذه الإدارة الخفية وما هي بالخفية والتي تنفخه بالوعود، يظل لها حق السلب المباشر في أي وقت منه ومن أملاك دولته حيث تتراكم الديون لصالح السلطة السحرية وتنتفخ بالونات الاقتراض بذرائع الإنعاش والتنمية وتطويل النخيل وإنتاج البلح.
وكثيرا ما تسخط السلطة الفوقية على اعوجاج حاشية وتأخير تنفيذ برنامج مثلا أو التغاضي عن مزارعين بذروا القمح وحصدوا وأطعموا الشعب من خير أرض الولاية، فيشتد الخليفة ضدهم ويفرغ سخطه عليهم فيقبض ضياعهم وأموالهم وينفيهم.
يقال إن المتوكل سخط على محمد بن ابراهيم الذي كان عاملا (حاكما ) في مصر؛ لأنه فرض تشريعات تمنع اللواط، واعتبرت المراقص والدفوف ملهاة مبالغا بها للشعب، ومنع شرب ونفث الغلايين في الدكاكين ( المقاهي ) وسن تعليمات صارمة للنقش والزخرف والتصنيع وأمر المخالفين بالعمل الزراعي والإنتاج ثلثي ساعات النهار كعقوبات منتجة وبأعمال الحفريات للبحث والتنقيب عن الذهب والمعادن الثمينة والكنز المدفون في أرض مصر، وزودهم بالمقالع والمجارف والآلات الثاقبة للوصول إلى الكنوز الدفينة.فاكتنزت خزانة الخاص بالولاية.
ازدادت شكاوى الخاصة ضد محمد ابن إبراهيم، وكانت الشكاوى مقدمة للمتوكل ضد محمد ابن إبراهيم وأغلبها من كتاب التقارير للسلطة الخفية التي ترئس المتوكل.
فثارت ثائرة المتوكل، بأن أرسل إلى محمد ابن إبراهيم ، يؤنبه ويتوعده بالعقاب مذكرا إياه بالأعطيات التي منحه إياها كواحد من الحاشية القريبة والمطيعة، وأنه خيب أمله بما يفعله على هواه بإدارة الولاية ولم يسلمه ولاية مصر إلا لثقته بحفاظه على علو شأنها السابق .وعاتبه عتابا قاسيا لأنه خرج عن طوعه وأصبح يدير الولاية حسب رغبته، وأنه لا يجوز اتخاذ أي قرار غير الدارج المألوف.
لم يستجب محمد ابن إبراهيم للمتوكل وزاد بأن أمر النساء بالإنتاج والغزل والنسيج وأوجد لهم معامل القطن، فأرسل المتوكل واحدا من لحمه ودمه «الحسين بن اسماعيل» ابن أخ محمد بن ابراهيم، وطلب اليه أن يستخرج منه الأموال النقدية التي أعطاه اياها كعقوبة رقم واحد، ويستعيد منه الضياع والأراضي المهداة إليه بشرط الثبات وتثبيت الحال في مصر كما هو دون تغيير، وأمر ابن أخيه بسجن عمه محمد ابن إبراهيم لا بل وتعذيبه حتى الموت، جزاء خروجه عن أمر ومواصفات منصب الوالي المدفوع الثمن حيث إن الأعطيات كانت لشيء، والوالي محمد ابن إبراهيم خالف هذا الشيء !!! فمات رافضا معذبا وعلى يد ابن أخيه التي تلطخت بدمه الطهور وليس بيد المتوكل !!
فتخلد دم الوالي الرؤوف الذي خرج عن المألوف.
الدستور