الذي عسكر العالم
في منحدرِ انهيار الاتحاد السوفيتي، قبلَ أزيد من ثلاثة عقود شاعت نكاتٌ مُشبعةٌ بالغمزات عن آخر رؤسائه ميخائيل غورباتشوف، ومنها أن فلاحين بسطاء جاءوه بشكوى، أن دجاجهم ينفق بسرعة غريبة؛ فحكّ الرجل «وحمة» تشبه خارطة مبهمة على صلعته - إذا كنتم تذكرونها - وأمرهم بطلاء المزرعة بالأحمر، لون العنفوان برأيه. وبعد أسبوع تفاقم الوضع؛ فتوالت وصفاته عليهم، حتى هرعوا معلنين نفوق دجاجهم حتى آخر كتكوت منه؛ فتمتم بحزن، أن ما زال في جعبته ألوان أخرى كان يودُّ لو يقترحها عليهم.
وفي خضمّ طموح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استعادة أمجاد ذلك الاتحاد الغابرة؛ فإن الرجل، وعبر مسيرته الطويلة لم يعتد أن يقدم شيئاً من وصفات لونية أو بينية سوى الدبابة، التي على ما يبدو أنها قد نفعته في شتى الأحوال والأوحال. فحين حذّره الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، عام 2000 من الوقوف ضد الانفصاليين الشيشان؛ ردّ بإحراق عاصمتهم غروزني. وبعد أن عاود تحذيره عام 2008 من مغبة أي عمل عدائي ضدّ جورجيا؛ اجتاحها مسيطراً على عاصمتها تبليسي دعماً لانفصال أوسيتيا الجنوبية. ثم وبعد أن هدّده باراك أوباما من فداحة تدخّله في أوكرانيا عام 2014؛ نالها آخذاً في طريقه جزيرة القرم. وبعد أن طالبه عام 2015 بعدم التّدخل في سوريا؛ قاتل منقذاً، ثم ردّ على دونالد ترامب المطالب بخروجه منها ببناء قاعدة عسكرية جديدة فيها. وبعد كل هذا، هل سيبقى بوسع جو بايدن أن يثنيه اليوم عن عمل عسكري يجلجل على تخوم أوكرانيا ووجومها المرعوب؟.
قبل بضع سنوات - في عيد ميلاده الخامس والستين - أطلقت عليه مجلة «نيوزويك» الأمريكية لقب «بومة»، من زاوية أنه يعمل حتى رمق الليل الأخير. فهو يستيقظ متأخرا ويتناول إفطاره عند الظهر، وبعد القهوة يمضي ساعتين في سباحة قبل أن يختم رياضته برفع الأثقال. لكن ورغم أن البومة طائر جارح ينشط ليلاً، إلا أن الصواب لربما جانب الصحيفة إذ أغفلت أن البومة رمز للحكمة والتعقل في الثقافة الغربية، ذات الجذور اليونانية، بعكس ما تمثله من شؤم وفأل سيئ في ثقافتنا العربية، إلا إذا كانت تريد من لقبها ذلك أن تشي بدهائه وغموضه وخفته في نيل فرائسه. ومن هنا فإن بومة واحدة لن تكون كافية شافية. هو يحتاج بومات تتعاضد أو تتناقض في آن واحد؛ كي تواكب ما يعيشه من تهيؤ بليغ للانقضاض، وسادية غريبة لرجل عسكر العالم أكثر من مرة، والآن يوقفه على قدم واحدة ملوحا بحربٍ لا أحد يتكهّن بمآلاتها.
اليوم، وقريباً من ظلال عيد الحب التي فرشت أسبوعنا هذا بغير تأثير محسوس أو مهموس، وبعيداً عن دجاجات غورباتشوف ورمزيتها، وبومات بوتين وخافي معانيها وتلافيفها، صار واضحاً كوردة حمراء أننا نحيا زمناً يعاني نقصاً حاداً ومتفاقماً بأكسيد الحياة، ويواجه اختناقاً مُحكماً بكربونات الحروب والكروب؛ ولهذا لم يبق أمامنا سوى أن نتذكّر ما صدح به شاعر مهجوس بالحرب وويلاتها: ألا من يسقط راء الحرب... ألا من يسقط راء الحرب.
الدستور