ذاكرة ممشوقة القوام 3-3
لم يعُد علي مَحافظة يحمل «النورج» لدرس المحاصيل، لكنه عرف في حياته جيداً كيف يفصل الحَبّ عن القشّ بالمِذراة، يعرف كيف يرفع الأشياء إلى الهواء وينفضها، يبقى الحبّ، ويطير التبن في الهواء، دخل الغربال إلى الخدمة، وبدأ الكيل بالصاع، صحيح أنّه لم يعد يمتطي فرس أبيه الشقراءَ لتفقُّد الحصّادين، لكنه عرف أنّ الحصاد لا بدّ وأن يسبقَه ذرٌّ وحرث وتعشيب، وأنّ الماء زادُ النبتة.
انتقل إلى ظهر التلّ للدراسة في مدرسة إربد الثانوية، قابل مديراً لا يبتسم وجهُه للرغيف الساخن، طلب إليه أن يدفع رسوماً 16 ديناراً للصف الأول الثانوي، صرّف عليّ المبلغ في عقله، يعني أربعين رطلاً من القمح المُغربل، الله أكبر! من أين يأتي والده بهذا المال؟! اشتكى الفقر، قابل لجنةً أحدُ أعضائها واصف الصليبي، أُعفي من الرسوم، أنهى الثانوية، تقدّم لمنحة، وفي نفس الوقت توجّه إلى سوق الملابس المستعملة، «البُخاريّة» في إربد، واشترى حذاءً من «البالة»، من سوق «آيزنهاور» بالطبع، رفض المسؤول عن البعثات خليل السالم ابتعاثَه، طرده وكيل الوزارة مصطفى الدبّاغ من مكتبه، اشتكاهما في أربعِ صُحف، عبر إلى القرية خيّالاً يحمل البشرى، حصل على مِنحة إلى الجامعة السورية، وسافر.
درس التاريخ في الجامعة السورية، حصل من عبد الحكيم عامر أيّامَ الوَحدة السورية المصرية على 600 ليرة سورية، فصّل بذلةً من الجوخ، وفصّل حذاءً فاخراً لدى «سمرجيان»، تخرّج، عمل معلِّماً للغة الإنجليزية في «عين الفيجة»، انتقل للتدريس في «كلماخو» قرب القرداحة مع صديقه أنور العابد، وصلا القرية، استأجرا بيتاً من أحد القادة المَحلّيين، اسمه «أبو ثابت»، للرجل ابنة إلى جانب ثابت، لا يتذكّر علي اسمَها، يبدو أنها لم تكن جميلة، خرج وأنور لتفقُّد جغرافيا القرية، وجدا فتياتٍ «كلماخيات» يسبحن في عين ماء، خجلا، استحيا، عادا إلى التاريخ.
تعرّف علي مَحافظة على ثقافة العشق في «كلماخو». العشق، لا شيءَ غير العشق، هدف «الكلماخية» الأول في الحياة، ثم يأتي كلّ شيء، أو أيُّ شيء، أو لا شيء، المهم أن يأتي العشق. دُعِيَ إلى شابّ من أبناء وجهاء القرية: سأله: هل صحيح أنّك تُحبّ عمّتي «نجوى»، كانت «نجوى» في الثامنةَ عشْرة، يبدو أنّها أُعجبت بعليّ، شقراءُ، متوسّطة القامة، متناسقة القوام، أو قلْ ممشوقة القوام كذاكرة عليّ مَحافظة، مجتهدة وذكية، لكنها لم تستطع أن ترميَه بسهامها.
حصل «المعلم» على دبلوم التربية في جامعة دمشق، تحول اسمُها إلى جامعة دمشق وهو في السنة الرابعة، عاد إلى عمّان، صدر قرارٌ بتعيينه مدرِّساً في مدرسة الحسين بن علي في الخليل، ثمَّ سرعان ما صدر قرارٌ آخر ألغى الأول، عُيّن مدرساً في ثانوية رغدان في عمّان، أدمن الأكل في مطعم «الأوتوماتيك»، سافر إلى القاهرة، التقى فيها بغالب هلسا، انضمّ إلى الخارجية في عهد حكومة وصفي التلّ الأولى، عين ملحقاً عسكرياً في بون، تعلّم الألمانية على يد فتاة في العشرين، يبدو أن ذلك أسهم في سرعة تعلُّمه للألمانية، حصل عام 1971 على درجة الدكتوراة في التاريخ المعاصر والعلوم السياسية، تتلمذ على يد «براخر»، و»كنوت»، و»فلسون» الذي أشرف على رسالته: «دور القبائل البدويّة في الحياة السياسية الأردنية». اشترى سيارة فولكسفاغن «خنفساء» أو «بيتلز»، وذهب في رحلة إلى قرية هولندية على مثلّث الحدود البلجيكية الألمانية الهولندية، دعتْه ابنة صاحب المطعم إلى الرقص، اعتذر، سحبتْه عُنوةً، رقص، لكنه لا يذكر عدد المرّات التي داس فيها على قدميها، قرّر تعلُّم الرقص في «باد غوسبرغ»، علّمتْه امرأةٌ الرقص بواقع 6 ساعات في الأسبوع، يبدو أنّ ذلك سهّل التعلُّم أيضاً، وانطلق إلى موسيقى «فاجنر»، و»شتراوس»، وبيتهوفن» و»باخ « وموزارت».
انتقل الرجل للعمل في السفارة الأردنية في تونس كسكرتير ثالث، لم يتخلَّ عن «الخنفساء»، انتقل إلى الجزائر، أخذ معه «الخنفساء»، انتقل إلى السفارة الأردنية في باريس، شحن «الخنفساء» إلى مرسيليا ومنها إلى باريس، تعلَّم الفرنسية، سجّل في «السوربون» في برنامج الدراسات الإسلامية، تتلمذ على يد «مارسيل»، و»كولومب» ، نجح في الدبلوم، وسجّل للدكتوراه التي نالها عام 1971 في «العلاقات الأردنية البريطانية من 1921- 1957». عقد قِرانه على فوزية جودة شقو ، أخذها في إجازة من بون إلى حوض الراين، «كولون» و»ديسلدورف»، ثم زارا «أمستردام»، طبعاً باستخدام «الخنفساء»، اصطحب فوزية في زيارة قصيرةٍ إلى لندن، من باريس إلى «كاليه»، ومنها إلى «دوفر»، وضع الخنفساء في أسفل الباخرة، انتقل إلى القاهرة، ثم عاد إلى عمّان. قرّر أن يقضي إجازة شتاء في الإسكندرية، اصطحب معه الخنفساء.
علي محافظة رجل متصالحٌ مع ذاته حتّى سقف السماء، ذاكرته ممشوقة القوام، كان الراحل عدنان أبو عودة يُحدِّثني عن مفكّر قومي عربي لبناني، انتبه ونبّه في بداية القرن الماضي إلى مخاطر الهجرة اليهودية إلى فلسطين قبل أن يتنبّهَ لها أبناء البلاد أنفسُهم، نسي اسمَه، قال: «ما لنا إلّا علي محافظة»، اتّصل به وأنا أجالسه، سأله، أجابه على الفور: نجيب عازوري.
علي محافظة يُجيد الألمانية والفرنسية والإنجليزية، لكنّه لا يسمح بغلطٍ في كلمة واحدة في اللغة العربية، وهو رجل وفيٌّ مُخلص لوطنه، كان مخلصاً لسيارة «خنفساء»، لم يتركْها وحيدة يوماً، كيف لا يُخلص لوطنه، وكيف يتركه وحيداً دونه؟
علي محافظة رجل لا تهون عليه العِشرة، لا يفرّق بين الناس على أساس الجنس أو لون البشرة، باسمٌ بطبعه، عاشق للحياة، لا يطيق «الكَشَرة»، ما زال يعمل رجّاداً، وحصّاداً، وينثر البذار، ويسقي الزرع، لكنه يحرص على الإمساك بالغربال، ينفض الحَبَّ في الهواء، يضع الرِجال على غرباله، ينفضهم، يبقى الحَبّ، ويطير القشّ، أحياناً يضعهم ولا ينفض، يجِدُهم يتساقطون من بين مسامات غرباله، يقفز بعضهم قبل أن يهمَّ عليّ برفع يديه إلى السماء، ويردِّد: وأمّا الزبد فيذهب جُفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكُث في الأرض.
الدستور