أجندة في الاربعين لناريمان ابو اسماعيل

للرجال في الأربعين بريق يخطفني نحو تأمل عميق أحلق في فضائه في فلسفة الشيء وضده قوة الجسم وتقدم العمر...ورأس يموج بين بياض التجارب وغبار عراك الحياة وسواد الطزاجه في العزيمة والانجاز.
كان كذلك.. بوقار لا يليق أن يخدش في استعمال وسائل النقل العامة..وهذا أول ما شدني إليه.
صعد إلى الحافلة ..تجولت نظراته بينها بحثاً عن مكان بعيني خبير..وكمن يدرك لغة نداء الأماكن جلس إلى جواري..وكأنه بذلك أومأ بجواز التلصص على دواخله .
أتأمل الأجندة في يده..أحب هؤلاء المنظمين المنجزين كثيرا في سطور موثقة ..أجلهم..أشعرهم في تحد مع الحياة وكأن حياة واحدة لا تكفيهم..أدقق النظر في أجندته..هي حتما مستودع أسراره وتوثيقا تاريخيا ولو وجيزا لحصاد تموجات شعره وخشونة يديه .
يفتح صفحتها الأخيرة الموافقة للحادي والثلاثون من كانون الأول يخرج قلما من جيب معطفه الداخلي يكتفي بوضع إشارة صح وكلمة أنجز باللون الأخضر على رأسها ثم يعيد القلم بحركة آلية إلى مكانه,يزداد إعجابي به , ليته ينقل إلي عادته ,أو يعطيني درسا في كيفية اكتسابها فانا محاصرة بالكثير مما يتوجب إنجازه , تمنيت أن أحاوره , أن أطلب منه مساعدتي في وضع خطة , إلا انه كان مشغولا عني بمراجعة أجندته فها هو يعود لصفحتها الأولى من كانون الثاني ..يفتحها بزاوية حادة..راح يقلب صفحاتهاسريعا .
أستطيع قراءة بعض العناوين "المشاركة في ندوة ثقافية " .. "حضور حفل افتتاح فيلم ".. "زيارة جمعية ".. "تنظيم " ..ومما استدعى انتباهي وجود اشارة صح وكلمة أنجز على رأس كل صفحة باللون الأخضر .
يبهرني إنجازه ,حرصه الدقيق على التوثيق والتقييم .ليته يبطئ علني أستطيع قراءة بعض التفاصيل..أوتتسرب إلي مهارته..لكنه لا يسمع نداءاتي الراجية..يقلب أجندته بسرعة ..هكذا كيفما اتفق..تتراكض الصفحات بين يديه بسرعة برق دون أن تستدعي اهتمامه لا يدقق في أي تفاصيل لا يركز بصره على صفحة محددة من صفحاتها وكأنها لاتعنيه وكأنه ليس بصانعها ومخطط ما فيها ...أتراه يعاني اغترابا على وجهه النظر الماركسية أم أنه حزين على عام مضى يعد مؤشرا للعد التنازلي في عداد عمره الافتراضي؟
أوزع شرودي بين شعر رأسه والأجندة أرى البياض وقارا يتمثل في ذوقه ,في اختيار خططه وأشم السواد طازجا كنوار في كلمة أنجز..أعود إلى يديه ينتهي من تقليب صفحات الأجندة تستقر اليسرى على الصفحة الأولى منها بينما تخرج اليمنى من جيب المعطف قلما بذات لون الحبر المستخدم في كتابة سطورها بحركة فاجأتني بدأ بالكتابة على السطور المكتوب عليها وعلى ذات الكلمات المكتوبة ظننته سيعدل كلمة أو سطرا إلا أنه استمر في حركته تلك وكأنه يخط على سطور بيضاء لا شيء يملؤها أدهشني.
وفي محاولة مني للفهم أخرجت طامس الحبر من حقيبيتي قائلة:
ـ "تفضل قد يساعدك "
ـأشكرك لا حاجة لي به "
ـ "كيف ذلك ؟أراك تكتب على السطور المكتوب عليها دون شطب أو محي حتى أن الكلمات لم تعد مفهومة ".
ـ "عم تتحدثين ؟ انظري السطور فارغة والصفحات كلها بيضاء تستفز ..لا أثر لأي حرف فيها ".
وراح بحركة سريعة يقلب صفحاتها أمامي في محاولة منه لإثبات قوله مرددا ..انظري بياض ..فراغ ..لا شيء .
أصمت ..ولكني أستطيع قراءة بعض العناوين والكلمات التي لم يكتب فوقها ..أصمت ..أفكر..أشرد
ـ "أنزلني هنا من فضلك " خاطب سائق الحافلة تتوقف الحافلة ..ينزل تاركا لي أجندته كقلعة بسراديب سرية من الأسئلة.