مظفر النواب: شاعر ثوري أم شتّام طائفي؟
المدينة نيوز :- اشتكى مظفر النواب لصديق مشترك زاره قبل مدة قصيرة من وفاته، نسيان الناس له وعدم زيارة أحد له منذ سنوات.
الشاعر، المنسيّ حيا، صار فجأة، بعد أن مات، موضوعا للتنازع على ملكيّة تراثه، حيث خصصت الحكومة العراقية طائرة رئاسية لنقل جثمانه، وإقامة جنازة رسمية يحوطها حرس الشرف، فيما استنكر شباب الحراك العراقي محاولة السلطات الاستحواذ على المناسبة، واستقبلوا رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، ومسؤولين آخرين، حاولوا المشاركة في التشييع بالحجارة، ورددوا أن «مظفر لنا وليس للحرامية» وتجمهروا في انتظار نعشه أمام مقر اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، حيث أكد الناطق باسمه أن النواب «يمثل لدى المتظاهرين والثوريين موقف مقارعة الطغيان والديكتاتورية».
أعاد رحيل مظفر النواب تأجيج نيران معارك سياسية ـ ثقافية قديمة – جديدة، وتراوح قطبا النقاش بين التنازع على اسمه وتاريخه، كما حصل في بغداد، أو قراءة ظاهرته الفريدة التي تجمع بين الشعبية الهائلة لدى أجيال عديدة، وتداول شرائطه الصوتية كعمل سري، والأثر الكبير الذي تركه في الشعر المحكي العراقي، وحضوره الملوع الغنائي الحزين والغاضب والمقذع في أمسياته الجماهيرية.. من جهة، والتنقيب في «مكبوته الديني» ونقد الإقذاع والبذاءة في شعره، وصولا إلى اعتباره طائفيا وشتاما، من جهة أخرى.
مرحلة انحطاط أيديولوجية؟
في الجدل الذي امتد أيضا إلى وسائط التواصل الاجتماعي، تراوح الهجوم أو الدفاع عن النواب، كما حصل في تاريخه السياسي وشعره والانتقادات الموجهة له، بين المنطق العقلي الصارم، والعواطف الجياشة والإقذاع والطائفية، وصولا إلى نشر الأشعار والأخبار المزيفة (كما حصل في نشر مقطع شعر ركيك قال ناشروه، إن النواب قاله في حسن نصر الله، زعيم «حزب الله» اللبناني). على المقلب الناقد لمظفر النواب، استعيدت مقالة نشرها أحمد نسيم برقاوي الكاتب والشاعر وأستاذ الفلسفة، في مجلة «نزوى» العُمانية، اعتبر برقاوي فيها مظفر نموذجا عن مجموعة من «شعراء المرحلة الأيديولوجية القومية والشيوعية» الذين هم «أقرب للانحطاط الشعري» لتعبيرهم، في الغالب، «عن وعي أيديولوجي لشعراء ريفيين خيالهم الشعري ضعيف، وثقافة فقيرة». يظهر النواب، في قصيدته «وتريات ليلية» حسب برقاوي، «كل تناقضات انتمائه الطائفي والعروبي» حيث يكتب مقطعا يحدث «هزة ما في وجدان المتلقي» لكنه في مقطع آخر» ينحدر بحس طائفي شيعي مظهرا «مكبوته الحاقد متخفيا وراء يسارية فجة».
انتقل النقاش، بالطبع، إلى وسائل التواصل الاجتماعي، فكتب زياد بركات الكاتب والإعلامي الفلسطيني، عدة تعليقات منها قوله: «هل المنفى قيمة إضافية في الشعر، ونبض الجماهير رتبة أعلى، والسجن وصف للشعرية» و»ما هذا الذي نقرأه في رثاء شاعر هجاء يكتب بيانات حزبية؟ ثم ماذا عن شيوعيته؟ هل تؤهله لدكتوراه فخرية في الأدب» واصفا فصيح شعره بـ»كارثة نووية، إنشاء سوقي بلا معنى». وقال الكاتب الفلسطيني حسين شاويش، إن شعر النواب الفصيح «لم يضف إلى الشعر العربي سوى قاموس من الشتائم» وإن «قصائده الهجائية فجة وفيها مباشرة وتخلو من الفن وصورها أقرب إلى الزقاقيات والزعرنة» وإنه «شرعن الغوغائية الشعرية وأعطاها لبوس الأدب».
نزيه أبو عفش يتهم مظفر بالطائفية
إضافة إلى هذه القراءات التي تقدم نقدا لمرحلة ثقافية ـ سياسية، وتنتقد ما تعتبره طائفيا ومقذعا ومتناقضا في شعر النواب، ناقش محمد الخليل الأكاديمي والكاتب السوري، صحة إطلاق صفة «الشاعر الثوري» على النواب، خلص الخليل إلى أن النواب لم يحدث ثورة في بنية الشعر العربي، وأن أفكاره السياسية متناقضة، فلا منطق في الثورة على نظام في العراق والاحتماء بديكتاتور في بلد آخر، ولا ثورية في تقديم نموذج سياسي شيعي وتأييد «صنوف التطرف الإسلامي». قدّم الخليل أيضا، لإظهار التفاوت بين مستويين متفارقين لدى النواب، جهدا كبيرا في مراجعة الأداءات الصوتية، والتحرير لقصيدة للنواب مذهلة في جمالياتها بعنوان «سلّفيني» وبذلك خلق الخليل مقارنة بين مستويات شعرية وفكرية وسياسية متفارقة لدى النواب. في رد على برقاوي، قدمت لينة عطفة الشاعرة السورية، وقائع عديدة لاستخدام رموز إسلامية كالحسين وعلي لدى شعراء عرب آخرين، لم يتهموا بالطائفية، كمحمود درويش ومحمد الماغوط، لكنّها، من حيث لا تحتسب، قدّمت أيضا بعضا من الصدقية لمسألة أثر الطائفية لدى الشعراء العرب، حين استشهدت بحادثة غضب الشاعر السوري نزيه أبو عفش، من شعبية النواب لدى الجمهور، بعد أمسية مشتركة لهما، حين اتهم أبو عفش زميله النواب، والجمهور الذي صفق له، في مدينة السلمية السورية، بالطائفية (وهي تهمة اتهم بها أبو عفش الذي قام بمواقف فجّة يسارية وطائفية كثيرة لاحقا!).
على المقلب الآخر، كتب البعض، كما فعل سعد الياسري، بطريقة تمزج شرح شخصية الشيوعي العراقي، والدفاع عن مقاصد النواب، والهجوم على من انتقدوه، حيث قال إن «اتهام النواب بالنفاق والتشيع (رغم ماركسيته) لا ينضج إلا في ذهنية تنطلق من حقد طائفي/ قومي» وأن تخيل شخصية مثل علي بن أبي طالب «بصفات تتجاوز الرسولية وتقارب الربوبية أحيانا» هو «فلكلور عراقي ريفي قائم بذاته، وحمولته الدينية تكاد أن تكون صفرا».
الوحيد الذي اختفى وعوقب؟
في مقابل هذا الهجوم أو التفريق بين الثوري أم اللاثوري في فكر النواب، والشعري أم الهابط في قصائده، والماركسي أم الطائفي في سياسته، اتخذ البعض، مثل خضر الأغا الكاتب السوري، موقفا يرى أن الشاعر يجب أن «يدرس بوصفه ظاهرة متكاملة لا يمكن تجزيئها» وأنه «لا يصح دراسة شعره الا بالارتباط الوثيق مع شخصيته وتاريخه ومواقفه وأثره».
أشار الشاعر العراقي هاشم شفيق، إلى تأثير مجموعة «الريل وحمد» بالمحكية العراقية، على جيل طويل ومتعدد، وإلى امتداد أثره إلى شعراء الفصحى، ورأى الروائي علي بدر أن شعر مظفر «كتب التاريخ السياسي للعراق» وأنه أنتج في شعره الفصيح «صورا لم ينتجها الشعر العربي أبدا».
في مقالته «مظفر النواب: الصيحة والبشارة» رأى الشاعر والكاتب اللبناني عباس بيضون، أن الشاعر العراقي كان «أغنية المعركة» وأنه لم يكن ممكنا بالتالي «قراءة مظفر كنص وفصله هكذا عن الأحداث» ورأى بيضون في مخاوف منتقدي مظفر من تحول شعره «إلى حكي شوارعي، إلى مباشرة فظة» فكرا يرى أن على الشعر «أن يكون له مستواه وأن يحفظ درجته» ما يعني أن يبقى الشعر «في نفيه» حيث لا تتحول الحداثة إلى سياسة أو دعوة أو قضية اجتماعية.
يرى محمد شاويش، الكاتب الفلسطيني أن «الوعي الذي يتجلى في شعره هو الوعي العربي في زمنه، لا أفضل ولا أسوأ» وأن «مظفر النواب الذي نعرفه سحقته هزائم الحركة الوطنية العربية» غير أن بيضون يرى أن تواري شعر النواب كان «نوعا من القصاص على شعبيته» وأن الكلام عن تنزيه الشعر عن السياسة مضلل، لأننا «لا نعرف شاعرا اشتهر بفضل شعره فحسب، دون أن يردف ذلك دعوة ما سياسية».
لقد كان النواب هو «الوحيد الذي عوقب» وهو ما يفسّر، ربما، نسيانه لسنوات طويلة، في ما يثبت تجدد المعارك حول إرثه واسمه، وتنقّل الناس بين الهجوم والدفاع الشديدين، على أن أسباب الصراعات الثقافية ـ السياسية، على أشكالها، ما تزال فاعلة بقوة.
القدس العربي