سبتة ومليلية: هل ستكون قضية افريقية؟
آخر ما قد يفكر به المهاجرون الافارقة غير النظاميين، حين يحاولون التسلل والعبور إلى سبتة ومليلية، هو إن كانت أفعالهم تلك تساعد أم لا على تقريب يوم تحرير الجيبين المغربيين من نير الاحتلال الطويل لهما. لكن هل آن الأوان ليخطط صناع القرار الافريقي للقيام بدور ما في مسألة ما زالت لم تعرض بعد رسميا على أنظارهم؟
الثابت أن المغرب وإسبانيا يعلمان جيدا أن المصالحة الأخيرة بينهما، لم تغلق ملف الثغور والبلدات والجزر المغربية المحتلة بشكل نهائي
قبل أكثر من عام وفي غمرة خلافهم مع الرباط، حاول الإسبان أن يصوروا احتلالهم للبلدتين الواقعتين شمال المغرب، على أنه قضية وجودية تعني أوروبا بأكملها، مقدمين أنفسهم حراسا شرعيين للبوابة الجنوبية للقارة العجوز، يصدون عنها كل الهجمات والاختراقات المحتملة التي قد تطالها من الضفة الأخرى للمتوسط. والآن ومع بدء التطبيع التدريجي لعلاقاتهم بجارتهم الجنوبية، هل سيكون ممكنا أن تنقلب الآية ليتحول احتلال سبتة ومليلية، وعلى الضد من ذلك تماما إلى قضية افريقية تعني تحرير واحدة من آخر أراضي القارة السمراء من الاستعمار؟
لقد عاد المغرب في 2017 إلى ما اعتبره الملك محمد السادس، في ذلك الوقت، بيته الافريقي، منهيا قطيعة دامت أكثر من ثلاثين عاما. واعترف العاهل المغربي في خطاب العودة، بأن الأمر لم يكن سهلا بالمرة، مشددا على أنه «وبمجرد استعادة المملكة المغربية لمكانها فعليا داخل الاتحاد، والشروع في المساهمة في تحقيق أجندته فإن جهودها ستنصب على لم الشمل والدفع به إلى الأمام». لكن القضية الصحراوية ظلت تقف كل مرة عقبة أمام تطوير علاقة الرباط بالاتحاد الذي بقي لذلك السبب ولعدة أسباب أخرى أيضا بعيدا عن ملف سبتة ومليلية. غير أنه وفي سابقة قد لا تبدو مألوفة، أو معهودة بالمرة، خرج موسى فقي محمد ليعبر عن قلقه وصدمته لا من بقاء جزء من الأراضي المغربية تحت الاحتلال الأجنبي، بل مما جرى الجمعة الماضي قرب أسوار بلدة مليلية، مغردا بعد يومين من تلك المأساة على حسابه على تويتر قائلا: «أعبر عن صدمتي العميقة وقلقي إزاء المعاملة العنيفة والمهينة للمهاجرين الافارقة الذين يحاولون عبور الحدود الدولية من المغرب إلى إسبانيا، وما أعقب ذلك من أعمال عنف أدت إلى مقتل ما لا يقل عن 23 شخصا وإصابة الكثيرين»، دون أن يغفل في الأثناء عن الدعوة إلى فتح تحقيق فوري في ما جرى، مذكرا جميع الدول على حد تعبيره، بالتزاماتها بموجب القانون الدولي «بمعاملة جميع المهاجرين بكرامة، وإعطاء الأولوية لسلامتهم وحقوقهم الإنسانية، مع الابتعاد عن استخدام القوة المفرطة» نحوهم. والسؤال الذي طرح نفسه هنا، وعلى ضوء الانقسامات المعروفة داخل الاتحاد الافريقي هو، هل أن ذلك الموقف كان مجرد رد فعل عفوي وطبيعي على المأساة الإنسانية التي حصلت هناك؟ أم أن يقظة الضمير الافريقي، وخروج رئيس أكبر اتحاد إقليمي في القارة عن صمته كان لأغراض ودوافع أخرى قد تكون بعيدة كل البعد عن التأثر ببشاعة المشاهد التي تناقلتها وسائل الإعلام والتواصل للقتلى والمصابين، في محاولة دخول البلدة المغربية المحتلة؟ لا شك في أن ما اعتبرت واحدة من أضخم محاولات الاقتحام الجماعي لمليلية وأكثرها مأساوية في الوقت نفسه، هزت الإنسانية ومستها في الصميم، وأعادت السؤال القديم حول أسباب اختلال الكفة بين الشمال والجنوب وسبل تعديلها، إلى الواجهة، وفي ما إذا كان الوصول ولو إلى نقطة تقع تحت الاحتلال الأوروبي وبتلك الطريقة يستحق من الشباب الافريقي أن يجازف ويضحي بارواحه ليقضي منه من يقضى ويصاب من يصاب؟ لكن الوجه الآخر للحصيلة المحزنة والمؤلمة لذلك الدخول، أو الاقتحام الدراماتيكي هو ما سيتركه من آثار وتبعات في المستقبل، فهل سيبقى خلال الأسابيع والشهور المقبلة مجرد حدث عابر ومحدود لن تكون له أي تبعات أو تداعيات مرتقبة؟ أم أنه سيمثل بالفعل منعرجا حاسما قد يفتح أعين الافارقة، بوجه خاص، لا على الضيم الذي تعاني منه قارتهم بسبب اختلال الموازين مع القارة العجوز التي نهبت خيراتها ولا تزال تستغل الجزء الكبير منها إلى اليوم، بل على حقيقة ربما أغفلوها أو تناسوها ولم يلتفتوا لها وهي وضع تلك البلدة المغربية الصغيرة تحت احتلال قوة أجنبية من خارج القارة؟ ربما قد لا تعني مساحة الجيب الصغير شمال المغرب شيئا بالمقارنة بمساحة المنطقة التي كان يطلق عليها في وقت ما اسم الصحراء الإسبانية، لكن سيكون من الخطأ أن يعتقد أحد أن اهتمام المغرب بغلق الملف الصحراوي، من خلال تثبيت مقترح الحكم الذاتي كحل عملي وتوافقي ونهائي للمشكل، يعني أنه سيكون مستعدا ليقدم أي تنازل في سبيل تحقيق تلك الغاية، ولو عبر التخلي عن المطالبة في وقت ما باستعادة سيادته على المناطق والتخوم التي لا تزال تخضع للاحتلال الإسباني. لقد كان كلام مسؤول إسباني سابق قبل فترة واضحا جدا في ذلك الخصوص، ففي ممقابلة له في إبريل/ نيسان الماضي مع وكالة الأنباء الإسبانية قال خورخي دراكارا وهو رئيس المخابرات الإسبانية السابق، إن المغرب لن يتخلى في يوم من الأيام عن سبتة ومليلية، ولن يوقف طموحاته بشأن استرجاعهما من إسبانيا، وإنه سيعود للمطالبة بهما ولن يتخلى عنهما مهما كان. وربما سيقول البعض إن ذلك مجرد انطباع أو توقع أو حتى تحذير غير جدي أو مبالغ فيه، غايته التخويف فقط من خطر أو تهديد غير موجود قد يشكله المغرب على شبه الجزيرة الإيبيرية على المدى المتوسط والبعيد، وإن عدة أطراف وقوى سياسية إسبانية دأبت على إطلاق مثل تلك التحذيرات بين الحين والآخر لغايات حزبية معروفة. لكن ألم يعكس حرص الإسبان في يونيو/حزيران 2021 على انتزاع قرار رمزي من البرلمان الأوروبي باعتبار المدينتين المحتلتين حدودا خارجية للاتحاد الاوروبي، مقدار توجسهم وصدمتهم مما حصل في ذلك الوقت في سبتة، حين تدفق نحو ثمانية آلاف مهاجر في غضون يومين فقط إلى داخل الجيب المحتل؟ ثم ألم يكن أحد أهم أسباب تعطل مسار التطبيع التدريجي لعلاقاتهم مع المغرب هو سعيهم إلى تكريس بعض المظاهر التي تثبت سيادتهم على المدينتين المحتلتين مثل، إلغاء الامتياز الذي كان يقضي بدخول المغاربة القاطنين بالبلدات المتاخمة لهما من دون تأشيرات؟ الثابت أن الطرفين يعلمان جيدا أن المصالحة المغربية الإسبانية الأخيرة، لم تغلق ملف الثغور والبلدات والجزر المغربية المحتلة بشكل نهائي، لكن هل يعني ذلك أن المغرب يتعجل الحسم فيه ويرغب في تحويله إلى قضية إقليمية وافريقية؟
من الواضح أن الرباط تنظر للموضوع من اكثر من زواية وتأخذ بالاعتبار عدة معطيات، ولأجل ذلك فهي لا تتحمس اليوم لتلك العملية، لكن هل سيشكل موقف رئيس الاتحاد الافريقي الاخير من مأساة مليلية انتكاسة للتقارب المغربي مع الاتحاد؟ حتى الان لا يزال المغاربة حريصين على أن لا يهدموا بيتهم الافريقي، أو يهجروه، رغم كل ما ظهر فيه من تصدعات وتشققات منذ عودتهم إليه.
كاتب وصحافي من تونس
القدس العربي