معضلة الهند مع حرب أوكرانيا
على طريقة الهندي الذي يحرك رأسه على الجهتين خلال الحديث تسعى الهند للحفاظ على علاقاتها مع كل من الولايات المتحدة وأوروبا من جهة وروسيا من جهة أخرى. معادلة ليست سهلة على الإطلاق خاصة عندما تريد واشنطن وحلفاؤها ألا يتحرك رأس نيودلهي سوى نحوها.
منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا والهند ترفض إدانة ما أقدمت عليه روسيا تجاه جارها الغربي ولهذا امتنعت دائما عن التصويت سواء في الجمعية العامة للأمم المتحدة أو مجلس الأمن العضو غير الدائم فيه خلال دورته الحالية.
وإذ يثير هذا الموقف امتعاض الدول الغربية لكن ذلك لم يؤد، إلى حد الآن على الأقل، إلى أزمة مفتوحة مع نيودلهي ربما في انتظار تطور تدريجي يعدّل قليلا أو كثيرا من هذا الموقف، وهو ما شرعت في الدفع نحوه جديا.
لم تتخذ قمة الدول السبع الكبرى المنعقدة في ألمانيا أي موقف علني ضد الهند خاصة مع زيادة وارداتها من الخامات الروسية المختلفة بنحو 25 ضعفا، مما يساهم في تعويض موسكو عن خسائرها الناتجة عن العقوبات الغربية، لكنها نجحت على ما يبدو في بداية تغيير دفة توجهاتها عبر إشراكها في هذه القمة وخاصة ما نتج عنها.
لا شك أن نيودلهي تدرك حجم المجازفة الخطيرة التي وجدت نفسها فيها نظرا لحجم التبادل التجاري الضخم بينها وبين كل من أمريكا وأوروبا، فحسب بيانات وزارة التجارة الهندية الصادرة قبل شهر تقريبا فإنّ أمريكا أصبحت أكبر شريك تجاري للهند في العام المالي 2021 ــ 2022، إذ بلغ حجم تجارتها 119.42 مليار دولار. أما حجم التجارة مع دول الاتحاد الأوروبي فيقدر بحوالي 90 مليار دولار فضلا عن حجم تجارة مع بريطانيا يقدر بنحو 50 مليار دولار. وكل هذا لا يقارن على الاطلاق بمصالح الهند المحدودة مع روسيا التي هي في حدود 8.1 مليار دولار فقط العام الماضي.
لا شك أن نيودلهي تدرك حجم المجازفة الخطيرة التي وجدت نفسها فيها نظرا لحجم التبادل التجاري الضخم بينها وبين كل من أمريكا وأوروبا
ومثلما ذكرت «لوموند» الفرنسية فإن الهند ثالث بلد مستهلك للطاقة في العالم، بعد الولايات المتحدة والصين، وهو الذي يحتاج إلى استيراد 85% من بتروله من الخارج يجد نفسه مرغما على السعى بكل الطرق إلى احتواء موجة ارتفاع أسعار الطاقة بسبب الحرب في أوكرانيا وقرار واشنطن منذ مارس – آذار الماضي وقف أي استيراد للنفط الروسي، مع أن موسكو لا تؤمن سوى بين 2% و3% من الحاجيات الهندية في هذا المجال ليس أكثر.
إذا القضية لا علاقة لها بالكامل بالاعتبارات الاقتصادية، وإنما بغيرها، فروسيا تزوّد الهند بـ62% من وارداتها العسكرية مع أن الولايات هي حليفها الأكبر في المحيط الهندي. وهنا المفارقة فالهند تحتاج إلى كليهما في نفس الوقت وهي التي لديها إشكالات وعداوات حدودية مع كل من الصين وباكستان.
وحسب سمير للواني الباحث في مركز «ستيمسون» في واشنطن فإن 86% من السلاح الهندي هو روسي الصنع وفق ما جاء في صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية فجيش برّها يستعمل نفس الدبابات الروسية الموجودة حاليا في أوكرانيا (ت90) و(ت72)، كما أن ثلثي طيرانها هو من طراز «سوخوي» و «ميغ 21» الروسيتين فضلا عن التعاون مع موسكو في مجال تطوير الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية.
الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون واعون تماما بذلك وليسوا في وارد أن يطالبوا الهند بالمستحيل ولهذا فهم يسعون على الأقل في هذه المرحلة إلى الدفع في اتجاه تقليل اعتمادها على النفط الروسي الذي تقدمه موسكو حاليا بأسعار تفضيلية مما شجع نيودلهي على مزيد الاندفاع لشراء أكبر كمية منه بل والسعي لتخزين أقصى ما يمكن منه تحسبا لأوقات صعبة مقبلة.
قد لا تستطيع الهند أن تواصل طويلا لعبة «رجل هنا وأخرى هناك» في التعاطي مع الحرب المشتعلة في أوكرانيا فها هي قمة الدول السبع الكبرى التي انتهت في ألمانيا أمس تنجح في جر الهند، التي دعيت إليها، إلى جانب الأرجنتين والسنغال وإندونيسيا وجنوب إفريقيا، في إدانة الغزو الروسي «غير الشرعي» لأوكرانيا وهي بذلك تتحمّل، وإن ليس بالشكل المباشر الواضح للغاية، مسؤولية موقف جديد لم يسبق لها أن أعلنته من قبل.
ومن خلال ما قاله المستشار الألماني أولاف شولتس تبدو الرغبة في إظهار أن دعوة هذه الدول الخمس أن «مجتمع الديمقراطيات» لا يقتصر على «الغرب ودول نصف الكرة الشمالي» منوّها بـ»ديموقراطيات المستقبل في آسيا وأفريقيا» وذلك في مسعى لكسب ود دول امتنعت عن التصويت ضد موسكو في الأمم المتحدة، ليس فقط الهند وإنما أيضا السينغال وجنوب إفريقيا.
ومن شأن استمالة هذه الدول أن يؤجج الصراع حولها بين الغرب وروسيا حول من هو الأقدر على ضم العدد الأكبر منها إلى موقفه خاصة بعد دعوة بوتين قبل أيام إلى تعزيز دور مجموعة بريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) مع بلدان في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
ليست الهند وحدها إذن من يسعى إلى ضمان توازن صعب للغاية سيصبح سريعا مستحيلا إن استمرت الحرب في أوكرانيا.
كاتب واعلامي تونسي
القدس العربي