مخاطر الترسانة النووية الإسرائيلية
منذ سنة 1986، سقطت استراتيجية الغموض النووي الإسرائيلي، عندما كشف التقني الإسرائيلي ذو الأصول المغربية مردخاي فعنونو Mordechai Vanunu، والذي كان يعمل في المفاعل النووي الإسرائيلي في ديمونة، لصحيفة صاندي تايمز البريطانية The Sunday Times عن امتلاك "إسرائيل" لأسلحة نووية، موثقاً ما يقول بالصور والبيانات.
ثم توالت التقارير الإعلامية والاستخبارية الخاصة بالقدرات النووية الإسرائيلية لتتراوح تقديرات الخبراء بأن "إسرائيل" تمتلك ما بين 80 إلى 400 رأس نووي،[2] ناهيك عن قدراتها في المجال البيولوجي والكيميائي.[3]
وكان شمعون بيريز Shimon Peres رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق قد عرض في أحد كتبه قصة سعيه لبناء مفاعل ديمونة، وبشكل تفصيلي يعزز في مضمونه كل التقارير الدولية حول التسلح النووي الإسرائيلي.[4] إلى جانب اعتراف رئيس الوزراء إيهود أولمرت Ehud Olmert بامتلاك "إسرائيل" للأسلحة النووية، بالرغم من اعتبار البعض بأن ذلك كان بمثابة "زلة لسان".[5]
ذلك يعني أن العالم وخصوصاً قوى النظام الدولي المركزية، تتعامل مع "إسرائيل" من هذه الناحية؛ كدولة نووية، دون مساءلتها عن مشروعية أسلحتها النووية، على غرار ما يجري مع إيران أو مع كوريا الشمالية، ناهيك عن القيود والحصار الذي فُرِض على الهند وباكستان في فترات سابقة لمنعهما من امتلاك هذا السلاح، ثم مواصلة الضغط عليهما خوفاً من تسرب الخبرات والمواد النووية إلى دول أخرى أو إلى "تنظيمات إرهابية"،[6] إلى جانب معارضة "إسرائيل" الصريحة لأي اتفاق إيراني أمريكي على البرنامج النووي الإيراني.
بالمقابل، فإن "إسرائيل" تلقت الدعم المباشر من الدول الغربية، خصوصاً من فرنسا في البداية،[7] واستثمرت الصمت الغربي على التقارير الدولية المتتالية منذ سنة 1954 إلى الآن، حول نشاطها في المجال النووي العسكري، على الرغم من أنها تكشف عمليات قامت بها الأجهزة والقادة الإسرائيليين؛ من تهريب، وتجسس، ونقل مواد مشعة، وإجراء تجارب نووية خصوصاً في جنوب إفريقيا خلال فترة نظام التمييز العنصري هناك، دون أن تتعرض "إسرائيل" لأيّ إجراءات عقابية من أيّ دولة من دول العالم.[8]
ويبدو أن "إسرائيل" غير مطمئنة على المدى البعيد لتحالفاتها الدولية، فهي تعتقد أن تغير مواقف حلفائها يمكن أن يحدث إذا توافرت ظروف دولية معينة، وعليه، فإن امتلاكها السلاح النووي يجعلها أكثر قدرة على التحرر من ضغوط الحلفاء في أوضاع دولية غير مواتية لها، فإذا افترضنا أن كل دولة من دول العالم انتهجت الاستراتيجية الإسرائيلية نفسها، فإن نموذج "نظام الوحدة المعترضة Unit Veto System" الذي صاغه مورتون كابلان Morton Kaplan سيتحقق،[9] وتتعزز نظرية كابلان في أدبيات العلاقات الدولية كما يرى كل من ريتشارد فولك Richard Falk وستانلي هوفمان Stanley Hoffmann من أن السلام يمكن أن يتحقق استناداً لمبدأ المساواة بين الدول؛ فإما أن يمتلك الجميع السلاح النووي أو أن يُنزع من الجميع،[10] وهما اقتراحان لا تقبل بهما "إسرائيل".
بالمقابل، فإن بقية دول الشرق الأوسط تتوزع على ثلاث مجموعات، هي: دول لديها برنامج نووي معلن (إيران)، ودول لديها إمكانيات لكنها لا تملك برنامجاً نووياً (أغلب الدول العربية الكبرى وتركيا)، ودول غير مؤهلة لذلك البرنامج، وبهذا تنفرد "إسرائيل" بوضعية احتكار امتلاك السلاح النووي ولكنها تحظى بغطاء ديبلوماسي غربي، بينما يتم التركيز الغربي على البرنامج الإيراني، على الرغم من إصدار المرشد الإيراني علي خامنئي Ali Khamenei سنة 2003 فتوى شرعية؛ "تُحرم" صناعة أسلحة الدمار الشامل، من نووية أو كيماوية أو بيولوجية.[11]
مخاطر الترسانة النووية الإسرائيلية:
ينطوي البرنامج النووي الإسرائيلي على مخاطر محلية، في فلسطين، وإقليمية، خصوصاً دول الجوار العربي، ودولية، ولكن هذه المخاطر لم تحظَ إلا بالقدر اليسير من التغطية الإعلامية الغربية، مقارنة بتركيز هذا الإعلام على البرنامج النووي الإيراني. فقد كشفت دراسة غربية، اعتمدت منهجية تحليل المضمون لأخبار وافتتاحيات 6 صحف غربية شهرية خلال أربعة شهور متفرقة تمّ اختيارها عشوائياً بين السنوات 2009 و2012، أنها تناولت البرنامج النووي الإيراني بمعدل 1,232 مقالاً،[12] بينما كشفت دراسة أخرى لإحدى عشرة وسيلة إعلامية غربية، مكتوبة ومسموعة، أن تناول البرنامج النووي الإسرائيلي خلال طول الفترة الزمنية نفسها، في السنوات 1998 و2002 و2003، تكرر 20 مرة فقط، أي أن معدل تكرار التغطية للبرنامج النووي الإيراني يعادل نحو 62 ضعف تغطية البرنامج الإسرائيلي.[13]
ذلك يستدعي من الباحثين العرب التركيز على مخاطر البرنامج النووي الإسرائيلي لموازنة النظرة للمشروعَين، لا سيّما في الجوانب التالية:
أولاً: المخاطر البيئية الناجمة عن دفن النفايات الذرية من المفاعلات النووية الإسرائيلية:
تُشكّل نفايات المشروعات النووية مصادر خطر بيئي على الكائنات الحية، وتقوم "إسرائيل" بدفن هذه النفايات بشكل رئيسي في ثلاث مناطق رئيسية؛ هي الضفة الغربية والنقب وهضبة الجولان السورية،[14] إلى جانب الدفن السري أو الدفن من خلال قنوات الفساد في دول خارج الإقليم.
وتتمثل أبرز نتائج هذا الدفن؛ في بروز ظواهر مثل تصاعد نسبة الإصابة بالسرطان، بين سكان المناطق الفلسطينية والأردنية المجاورة لمناطق النشاط النووي الإسرائيلي وأماكن دفن نفاياته، مما يؤثر على التربة والماء والهواء والحياة البرية بشكل عام، وليست مصادفة أن معدل الإصابة بالسرطان في الأماكن المجاورة للنشاطات النووية الإسرائيلية أعلى من معدلها في بقية أرجاء الإقليم كله، مع ملاحظة، أن المسافة الفاصلة بين مفاعل ديمونة ومحافظة الخليل في الضفة الغربية لا تتجاوز 40 كم، وبحسب وزارة حماية البيئة الإسرائيلية، فقد بلغ إنتاجها من النفايات الخطرة نحو 317 ألف طن سنوياً، منها 40% فقط تتم معالجتها عن طريق إعادة التدوير، بينما ترفض تحديد سبل معالجة الـ 60% المتبقية من النفايات، أو أين يتم دفنها.[15]
وتشير التقارير العلمية بأن "إسرائيل" تقوم بإنتاج البلوتونيوم Plutonium في ديمونة، وهو العنصر الأكثر إشعاعاً مقارنة ببقية العناصر، وينتقل آثار إشعاعه حتى إلى الملابس ويلوثها، وتكمن الخطورة في أن المدافن الإسرائيلية قد تزيد الوضع سوءاً في حالة تعرضت المنطقة لأي زلزال؛ مما يؤدي لانكشاف هذه المدافن.[16]
وقد راجت تقارير عديدة عن أن بعض الدول العربية قد قبلت دفن نفايات نووية إسرائيلية في أراضيها، وهو ما أوجد توتراً داخل مجتمعات هذه الدول، إلى جانب قلق الدول المجاورة، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك ما جرى في موريتانيا سنة 1998.[17]
كما أن مخاطر التلوث تنتج عن الحوادث العارضة، في أثناء تشغيل المفاعلات أو تحويل النظائر أو تسرب الإشعاعات، وهو ما جرى في عدد من الدول ومنها "إسرائيل"؛ حيث وقع حادث فيها سنة 1990 خلال معالجة الكوبالت-60 أوCobalt 60 ، وأكدته الوكالة الدولية للطاقة الذرية International Atomic Energy Agency في تقريرها لسنة 1993.[18] وتشير تقارير الوكالة الدولية إلى أنه وقع في العالم 3,928 حادثاً نووياً خلال الفترة 2021-1993، أي بمعدل يزيد عن 140 حادثاً سنوياً.[19]
ثانياً: زعزعة الاستقرار السياسي للدول التي يجري دفن النفايات الإسرائيلية فيها:
تندرج "إسرائيل" ضمن أربعة دول فقط في العالم التي لم توقّع على اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية Treaty on the Non-Proliferation of Nuclear Weapons (NPT)؛ "إسرائيل" والهند وباكستان وكوبا، وهو ما يعني أنها دولة "مارقة" على القانون الدولي بحكم عدم امتثالها للقواعد القانونية الدولية في هذا المجال، فهي لا تسمح للوكالة الدولية المعنية بهذا الشأن أن تمارس أي نشاط لها في "إسرائيل"، وهو ما جعلها قادرة على الاستمرار في توسيع نشاطاتها النووية، كما ظهر من صورة الأقمار الصناعية لمنطقة النقب الفلسطيني خلال السنوات الثلاث الماضية، إلى جانب أن "إسرائيل" تعمل وفقاً لتقارير الخبراء الدوليين من جمعية الحد من التسلح Arms Control Association على إنتاج المزيد من التريتيوم Tritium، وهو منتج ثانوي مشع سريع التحلل نسبياً يستخدم لتعزيز القدرة التفجيرية لبعض الرؤوس الحربية النووية، كما أن "إسرائيل" تعمل على إنتاج بلوتونيوم جديد "ليحل محل أو يطيل عمر الرؤوس الحربية الموجودة بالفعل في الترسانة النووية الإسرائيلية"،[20] والملاحظ في هذا الشأن، أن القوى الدولية المركزية لا تبدي أي اعتراض على البرنامج النووي الإسرائيلي، وهو ما يتضح في الشواهد التالية:
1. القبول الضمني لتبني "إسرائيل" استراتيجية احتكار السلاح النووي في الشرق الأوسط. فقد نتج عن السياسة الإسرائيلية في امتلاك السلاح النووي مخاوف من توجه دول المنطقة الشرق أوسطية لامتلاك هذا السلاح، وهو ما يعني تعزيز اتجاهات سباق التسلح النووي الإقليمي، مما يُشكّل تهديداً لا لبس فيه للاستقرار السياسي الإقليمي والدولي على حدٍّ سواء، وتدل ردود الفعل العربية والدولية والإسرائيلية على برنامج إيران النووي على مقدمات هذا المشهد، وهو تكرار لمشهد أثارته "إسرائيل" في الستينيات من القرن العشرين، ضدّ ما زعمت بأنه برنامج نووي مصري، ثم قامت سنة 1981 بضرب المفاعل النووية العراقية، واتهمت ليبيا والجزائر بأن لديهما مشاريع نووية، ناهيك عن إثارة الهواجس مما يسمى شبكة عبد القدير خان Abdul Qadeer Khan، العالم الباكستاني، من انتشار السلاح النووي، ومطاردتها واغتيالها لعلماء إيرانيين وعرب من ذوي العلاقة بالبرامج النووية أو المعرفة النووية، وتلقيها قدراً من المساندة الضمنية أو التنسيق السري مع دول غربية خصوصاً الولايات المتحدة.[21]
ومع أن "إسرائيل" ترفض طرح موضوع شرق أوسط خالٍ من السلاح النووي، ولا تسمح للوكالة الدولية بالتفتيش على أيّ منشأة لها، ومع أن كل الشواهد الميدانية والوثائق المختلفة تشير إلى أن "إسرائيل" تمتلك كل المحرمات الدولية من أسلحة دمار شامل، نووي وكيماوي وجرثومي، ولم توقّع على أي من اتفاقياتها الدولية، خصوصاً اتفاقية 1972 الخاصة بالأسلحة البيولوجية،[22] بل إنها وطبقاً لتقارير دولية، عملت على تطوير أسلحة نووية تكتيكية منخفضة القوة، وجهزت كتائب مدفعية مزودة بقذائف نووية لمدافع هاوتزر Howitzer عيار 155 ملم، وربما مدافع 203 ملم، وزرعت ألغاماً نووية في مرتفعات الجولان،[23] ناهيك عن أنها من ضمن آخر نقاط الاستعمار التقليدي والاستيطاني في العالم، وهي من ضمن أكثر دول العالم ميلاً للديبلوماسية السرية والتجسس حتى على أكثر حلفائها موثوقية، وأنها صاحبة أعلى معدل إدانة في هيئات الأمم المتحدة United Nations، وأنها ضمن أهم مراكز غسيل الأموال عالمياً، إلا أن العالم استسلم لها، ولم تتعرض لأي نوع من العقوبات إلى الحد الذي تبنت فيه الولايات المتحدة تشريعاً سنة 1997، يسمى تعديل كيل بنجامان Kyl-Bingaman Amendment، يُمنع بموجبه نشر صور أقمار صناعية لـ"إسرائيل" إلا في حدود الصور التجارية، وبقي ذلك ساري المفعول إلى سنة 2020.[24]
2. تؤكد تقارير "نشرة علماء الذرة Bulletin of the Atomic Scientists" في أحدث تقاريرها العلمية، أن "إسرائيل" طورت صواريخ أريحا 3 أو Jericho III، التي يصل مداها إلى كل مناطق إيران وباكستان وغرب الأورال الروسي بما فيها موسكو، وهو ما يجعل دائرة التهديد الإسرائيلي تتجاوز المنطقة العربية،[25] وبالتالي توسيع دائرة عدم الاستقرار الدولي.
ثالثاً: الإسهام في انتشار السلاح النووي:
يشير التاريخ المعاصر لانتشار السلاح النووي إلى أن "إسرائيل" هي الدولة الأولى خارج القوى العظمى التي امتلكت السلاح النووي، فقد كان الفارق الزمني بين "إسرائيل" والهند في المجال النووي ثمانية أعوام لصالح السبق الإسرائيلي، وأربعين عاماً قبل البرنامج النووي الكوري الشمالي، كما يتضح من جدول رقم 1.[26]
جدول رقم 1: انتشار السلاح النووي في العالم منذ سنة 1945 إلى الآن
▪️الولايات المتحدة:
تاريخ امتلاك السلاح النووي: 1945
الفترة الفاصلة عن الدولة السابقة: 0
▪️الاتحاد السوفييتي:
تاريخ امتلاك السلاح النووي: 1949
الفترة الفاصلة عن الدولة السابقة: 4
▪️المملكة المتحدة:
تاريخ امتلاك السلاح النووي: 1952
الفترة الفاصلة عن الدولة السابقة: 3
▪️فرنسا:
تاريخ امتلاك السلاح النووي: 1960
الفترة الفاصلة عن الدولة السابقة: 8
▪️الصين:
تاريخ امتلاك السلاح النووي: 1964
الفترة الفاصلة عن الدولة السابقة: 4
▪️"إسرائيل":
تاريخ امتلاك السلاح النووي: 1966
الفترة الفاصلة عن الدولة السابقة: 2
▪️الهند:
تاريخ امتلاك السلاح النووي: 1974
الفترة الفاصلة عن الدولة السابقة: 8
▪️جنوب إفريقيا:
تاريخ امتلاك السلاح النووي: 1979
الفترة الفاصلة عن الدولة السابقة: 5
(تخلت عنها 1990)
▪️باكستان:
تاريخ امتلاك السلاح النووي: 1998
الفترة الفاصلة عن الدولة السابقة: 19
▪️كوريا الشمالية:
تاريخ امتلاك السلاح النووي: 2006
الفترة الفاصلة عن الدولة السابقة: 8
المعدل: 6.1 سنة للدولة الجديدة
ذلك يعني، أنه خلال الفترة 2022-1945 تزايد عدد الدول النووية بمعدل يساوي دولة جديدة كل 7.7 سنوات، ولكن معدل الانتشار بين دول الصف الثاني، الدول غير العظمى، هو 8.4 سنوات، أي أن الانتقال يتباطأ، فقد كان الانتشار بين القوى العظمي بمعدل 3.8 سنوات للدولة الجديدة، بينما تزايد المعدل بين دول الصف الثاني إلى 8.4 سنة للعضو النووي الجديد، وهو ما يعني ان الانضمام الجديد قد يكون بين 2025-2023.
وخطورة الدور الإسرائيلي في مجال الانتشار؛ في أنها أسهمت بعد امتلاكها القدرة النووية العسكرية في نقل ذلك إلى دول أخرى، كما فعلت مع النظام العنصري في جنوب إفريقيا، الذي أقرّ رئيسه بإنتاج ستّ قنابل نووية تمّ تفكيكها بعد نهاية هذا النظام عام 1991-1990.[27]
من جانب آخر، لا بدّ من التنبه إلى أن "إسرائيل" هي التي فتحت الباب للفصل بين المقعد الدائم في مجلس الأمن الدولي United Nations Security Council والتمتع بحق الفيتو، وبين اقتصار امتلاك السلاح النووي على الدول المتمتعة بهذه الحقوق، فقد كانت الدولة الأولى التي فتحت المجال أمام الانتشار النووي، لكن هذا التطور الخطير لم يجد أي نقد ذي شأن من الديبلوماسية الغربية، ولم يطبق على "إسرائيل" أي نوع من العقوبات، بل تم تقديم العون التقني والسياسي والإعلامي لها، بينما في التجربة الهندية، والباكستانية، والكورية الشمالية، والإيرانية تمّ استخدام العقوبات والتحريض، على الرغم من أنهم لم يجديا في منع الدول المصممة على الامتلاك من تحقيق هدفها.
والخطورة الأخرى للدور الإسرائيلي في المجال النووي، هي أن "إسرائيل" انتقلت من دولة خارجة على القانون بكونها أول دولة من الصف الثاني امتلكت سلاحاً نووياً، لتصبح ضمن الدول التي تسعى لفرض العقوبات على المخالفين الآخرين، كما جرى مع باكستان ومع إيران، على الرغم من أن الأخيرة لم تعلن امتلاكها السلاح النووي، فانتقلت "إسرائيل" بهذا من دور المتهم إلى دور القاضي.
رابعاً: مخاطر تطبيق استراتيجية "الدولة المجنونة":
تتمثل استراتيجية "الدولة المجنونة" التي طرحها في سبعينيات القرن العشرين البروفيسور الإسرائيلي يحزقئيل درور Yehezkel Dror، والذي عمل مستشاراً للتخطيط في وزارة الدفاع الإسرائيلي، في المعطيات التالية: [28]
1. السعي لتحقيق أهداف مؤذية لدول أخرى.
2. التأكيد على الالتزام القوي بالإيذاء.
3. الإحساس بالتفوق القيمي على الآخرين، حتى لو كان ذلك يتناقض مع المعايير الدولية.
4. الاعتقاد بالقدرة على اختيار الأدوات الأنسب لتحقيق ذلك الإيذاء.
5. العمل على توفير إمكانيات خارجية تساعد على تحقيق الأذى.
6. لا يبالي صناع القرار فيها بالموازنة بين المكاسب والخسائر في إدارة الصراع.
ويرى درور في توضيحات لاحقة لنظرية "الدولة المجنونة"، بأنها الدولة التي "تعمل كوحدة لتحقيق أهداف عقلانية بوسائل غير عقلانية"، وبناء عليه، يرى درور في دراسة لاحقة،[29] أن إيران يجب أن "يراودها الخوف من أن تتصرف إسرائيل كدولة مجنونة، وهو ما يجعل إيران تميل للمصالحة مع إسرائيل، ولكن إيران قد تهاجم إسرائيل إذا تأكدت بشكل قاطع أن إسرائيل دولة مجنونة حقاً"، ويبدو أن استراتيجية "إسرائيل" تدور في هذا الاتجاه، أي إيهام إيران بأن "إسرائيل" قد تكون "دولة مجنونة" لذا يجب تجنبها، ولكن إذا اقتنعت إيران بشكل لا جدال فيه بأن "إسرائيل" "دولة مجنونة" فإنها ستبادر بضرب "إسرائيل"، وهو ما سيضعها في مواجهة العالم، لكن الأذى الذي قد يلحق بـ"إسرائيل" سيكون كبيراً، وهو ما يعني جعل المنطقة في حالة قلق بالغ من احتمالات ما ستُقدم عليه "الدولة المجنونة".
ويطرح درور قضية أخرى، وهي خطورة امتلاك حركات "مجنونة" أسلحة غير تقليدية سواء نووية أم جرثومية أم كيماوية، فالتنظيمات المسلحة يكفيها طبقاً للعلماء25 كيلو من اليورانيوم عالي التخصيب لإنتاج السلاح النووي، بالرغم من أن ذلك يعترضه توفر البنية التحتية لإنتاج الأسلحة النووية، لكن مختلف الدراسات تشير إلى أن احتمالات انتشار السلاح النووي بين تنظيمات ما دون الدولة أمراً محتملاً نظراً لعدم الاستقرار في بعض المناطق وعلى رأسها الشرق الأوسط؛ الذي يُعدّ الإقليم الأقل استقراراً منذ قيام "إسرائيل" على أرضه.[30] وهنا وفي ضوء استراتيجية "الدولة المجنونة" هل يمكن لدولة مثل "إسرائيل" أن تسهل حصول تنظيمات معينة على أسلحة غير تقليدية ومنها النووي؛ لتستخدمها ضدّ دول ترى "إسرائيل" أنها خطر عليها، فـ"إسرائيل" موّلت ودرّبت وسلّحت تنظيمات ومليشيات في العديد من دول الشرق الأوسط، فما الذي سيمنعها من تكرار ذلك وبمستوى تكنولوجي عسكري متطور؛ لتحقيق أهداف معينة طبقاً لاستراتيجية "الدولة المجنونة"؟ لقد تعاونت "إسرائيل" مع بعض حركات التمرد الإفريقية؛ كما جرى مع دولة التشاد، لنقل نفايات نووية إسرائيلية عبر الصحراء الليبية، ومعلوم أن تكاليف دفن النفايات مرتفعة، نظراً للإجراءات التي يجري اتخاذها لضمان عدم تسربها للمياه والتربة والهواء، كما أشرنا سابقاً، ولكن بعض الدول الفقيرة تتقبل دفن النفايات في أراضيها وبأسعار رخيصة للحصول على الأموال.[31] وكل هذه الشرور كانت "إسرائيل" هي من شرّعت أبواب الإقليم لها. ويتضافر مع السلوك الإسرائيلي متغيرات عدة تسهم في تزايد انتشار السلاح النووي بإيقاع أسرع ولجهات أخرى غير الدولة، وتتمثل أبرز هذه المتغيرات في الآتي:[32]
1. مشاعية المعرفة العلمية، فالمنحنى السوقي Logistic Curve يشير إلى تناقص المسافة بين نقاط التحول في تطور النظريات العلمية Paradigm Shift، إلى جانب أن خطوات إنتاج السلاح النووي لم تعُد سراً، وقد تتطور المعرفة في هذا الجانب إلى الحصول على السلاح النووي بطرق أكثر يسراً، بل وأقل كُلفة، كما هو الحال في أغلب أشكال التكنولوجيا المدنية والعسكرية.
2. انتقال علماء الذرة من بلادهم، لأسباب مختلفة، إلى دولة أخرى، فقد هاجر لـ"إسرائيل" خلال مرحلة بداية تفكك الاتحاد السوفييتي نحو 40 عالماً نووياً.
3. قدرة كوريا الشمالية، وباكستان، والهند، و"إسرائيل"، وجنوب إفريقيا على امتلاك السلاح النووي؛ جعل الدول الأخرى تدرك أن الجدار الأخير للأمن هو السلاح النووي وأن امتلاكه أمر ممكن.
4. الهجمات الأمريكية والتدخلات العسكرية الخارجية وقعت كلها على دول "غير نووية"، مما يعزز فكرة أن السلاح النووي يمثل رادعاً فعالاً، فحتى الآن لم تتعرض للاحتلال أو للهجوم الاستراتيجي دول نووية.
5. تراجع الثقة في فعالية منع انتشار السلاح النووي، بدليل الانتشار المستمر بعد اتفاقية منع الانتشار، فالاتفاقية التي وقّعت سنة 1968، وأصبحت موضع النفاذ سنة 1970، تمّ خرقها بشكل واضح ومعلن مرات عديدة، انتهت لامتلاك السلاح النووي.
الخلاصة:
إن المقارنة بين المشروع النووي الإيراني، الذي لم يتم التحقق من توجهاته العسكرية، والبرنامج النووي الإسرائيلي، المؤكد عسكرياً، تشير إلى أن مخاطر النووي الإسرائيلي تفوق وبشكل لا لبس فيه مخاطر البرنامج النووي الإيراني؛ فمن حيث إمكانيات دفن النفايات النووية وتقليص أخطارها البيئية، فإن عمر البرنامج النووي الإسرائيلي متقدّم على البرنامج النووي الإيراني نحو 40 عاماً، مما يجعل كمية نفاياته أكبر كثيراً من المشروع الإيراني، كما أن مساحة إيران تعادل نحو 63 ضعف مساحة فلسطين التاريخية (بما في ذلك فلسطين المحتلة 1948)، مما يسمح لها باختيار مواقع دفن أكبر وأبعد عن مناطق التأثير على البشر.
كذلك، لم يثبت حتى الآن نزوعاً إيرانياً لدفن النفايات في مناطق خارج أراضيها، بينما هناك مؤشرات أشرنا لها في متن هذه الدراسة، على أن "إسرائيل" تدفن أحياناً في دول أخرى، مما يهدد السلامة الصحية لسكان هذه الدول، ويوجد عدم استقرار داخلي؛ نتيجة تباين مواقف القوى السياسية في هذه البلاد من سياسة القبول بالدفن الإسرائيلي.
وفي الوقت الذي تنضوي إيران في عضويتها في المؤسسات الدولية ذات العلاقة بموضوع انتشار الأسلحة النووية، فإن "إسرائيل" خارج هذه المؤسسات ولا يشاركها في هذا إلا عدد محدود جداً من دول العالم، كما أنها ترفض التفتيش أو حتى طرح موضوع أسلحتها النووية للمناقشة.
إن عدم الاستقرار السياسي في المنطقة العربية، والذي يصل إلى نحو ثلاثة أضعاف معدله العالمي،[33] هو نتيجة في جوهره للوجود الإسرائيلي وخصوصاً سياسات الردع الإسرائيلي، والتي تُشكّل ترسانتها النووية عمودها الفقري.
وعليه، فمن باب أولى طرح البرنامج النووي الإسرائيلي للنقد والتحليل والكشف أكثر من البرنامج النووي الإيراني، أو على الأقل طرحهما معاً.
السبيل