تايوان بعد أوكرانيا على رقعة الشطرنج الأمريكية
ليس غريباً أن يشعر كثيرون في العالم، في ضوء ما تعتمده أمريكا من سياسات في ظل إدارة الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، بشيء من الحنين الى إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب.
صحيح أننا، كعرب بشكل عام، وكفلسطينيين بشكل خاص، كنا ضحايا ابتزاز ورعونة ترامب ومستشاره وصهره، جاريد كوشنر، وانه أعطى ما لا يملك، (من هضبة الجولان السورية، الى القدس وأراضي الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية)، الى دولة الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي، لكنه اعتمد، (على العديد من الأصعدة العالمية الأُخرى)، سياسة متوازنة، بل ومتوازنة جدّاً، إذا ما قورنت بما تعتمده إدارة بايدن، ومحيطه من الحزب الديمقراطي، وأبرزهم نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي، من سياسات على الصعيد الدولي.
ليس سهلاً العثور على نقاط بيضاء في سياسة ترامب وإدارته الدولية، لكننا نستطيع أن نسجّل له في هذا الباب عدّة نقاط، قد يكون أهمّها:
1ـ حرص ترامب على بناء علاقة جيّدة مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وتحدّث عنه، وخصّه، بصفات وتعابير إيجابية، رغم وجود رأي عام أمريكي طاغٍ يرى في روسيا، ورئيسها بوتين عكس ما كان يراه ويعبّر عنه ترامب. هذا التصرف أثمر علاقات متوازنة ومقبولة بين روسيا وأمريكا.
2ـ لم يحاول ترامب استفزاز روسيا، وهي التي تملك رؤوساً نووية تقارب في عددها مجموع ما تملكه جميع الدول النووية السبع في العالم: أمريكا وبريطانيا وفرنسا والصين والهند والباكستان وكوريا الشمالية. وأكثر من هذا: لمّح الى إمكانية حل حلف شمال الأطلسي، (الناتو)، وطالب أعضاءه بزيادة مساهماتهم المالية في نشاطات هذا الحلف. وزاد على ذلك باتخاذه موقفاً سلبياً من الرئيس الأوكراني، فلودومير زيلنسكي، وإن كان ذلك بسبب امتناع زيلنسكي التجاوب مع إلحاح ترامب في كشف صفقات مشبوهة لابن جو بايدن، منافسه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
3ـ بذل ترامب جهوداً كبيرة في التقرب والتعاون مع رئيس كوريا الشمالية، كِم جونغ أون، وخفف كثيراً من التوتّر في العلاقات الأمريكية مع كوريا الشمالية، من جهة، ومن التوتّر في العلاقات بين الكوريّتين، من جهة ثانية.
4ـ رأى ترامب، (بحق)، في الصين منافساً اقتصادياً قوياً لأمريكا، وهذا ما دفعه، وإدارته، الى اتخاذ مواقف سلبية تجاه الصين، من اتهامها بالتسبب في انتشار وباء الكورونا، وغير ذلك الكثير، ولكنه حافظ على بقاء التنافس ضمن حدود مقبولة.
مقابل سياسة التهدئة هذه، (وعلى هذا الصعيد فقط)، اعتمد الرئيس بايدن سياسة مغايرة تماماً. ويمكن لنا، في هذا السياق، التركيز على ثلاث نقاط:
1ـ بدأ العمل على إلحاق بايدن وإدارته الأذى بحلفاء أمريكا الأقرب، منذ الأشهر الأولى لتسلّمه الرئاسة الأمريكية. وكانت أولى الطعنات من نصيب فرنسا. إذ قبل أن ينتهي الشهر التاسع من ولايته، أعلنت أستراليا، (بالتنسيق مع أمريكا)، فسخ عقد بناء 12 غواصة في فرنسا للجيش الأسترالي، في صفقة هي الأكبر في تاريخ فرنسا، قيمتها 89 مليار دولار. وتلقّت باريس خبر إلغاء الصفقة كالصاعقة، وصلت حد استخدام الدبلوماسية الفرنسية لعبارات «طعنة في الظهر»، «خرق للثقة»، «معاملة غير لائقة» و«الكذب»، تعبيراً عن غضبها البالغ، وليس من جرّاء إلغاء الصفقة فقط، ولكن من الأسلوب الذي عوملت به فرنسا من قِبَل «الحليف الأمريكي» وشركائه، وخاصة غير الأنغلوسكسونيين منهم، حيث أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، فور إلغاء الصفقة، عن تشكيل تحالف ثلاثي استراتيجي يضمن تزويد أستراليا بغواصات أمريكية تعمل بالطاقة النووية، الأمر الذي يعني استبعاد فرنسا، ومعاملتها كشريك من الدرجة الثانية.. وربما الثالثة أيضاً.
2ـ بعد شهر من توجيه الطعنة الأنغلوسكسونية لفرنسا، أقدمت إدارة بايدن على الإنسحاب المُذلّ من أفغانستان دون استشارة «حلفائها»، وهو ما دفع الإتحاد الأوروبي الى الشكوى من قرار أمريكا الأُحادي هذا.
3ـ لحق بذلك إقدام إدارة بايدن على تحريض أوكرانيا، ورئيسها زيلنسكي، لزيادة التحرّش بروسيا. وواصلت هذه الإدارة تجاهل تحذيرات روسيا المتكررة والجدّية، ووصل الأمر حدّ «استجداء» روسيا شن الحرب على أوكرانيا، وراحت أجهزة استخبارات دول حلف الناتو، (وخاصة الأمريكية والبريطانية) تحدّد موعد بدء الحرب، وتضع لها السيناريوهات، وتوزّع صور الحشود والدبابات الروسية على حدود أوكرانيا، وترسم الخطوط والأسهم على الخرائط العسكرية، الى أن «أثمرت» جهود بايدن وإدارته، واندلع القتال في ما تسميه أمريكا «الحرب»، وما حرصت روسيا على تسميته «عمليات عسكرية». وبدأ تصوير زيلنسكي على أنه «بطل» الصمود في وجه الغزو الروسي، وأغدقوا عليه الدعم، وتسمين ترسانته العسكرية لمواصلة القتال في حرب محسومة النتيجة قبل أن تنطلق الرصاصة الأولى فيها. وها هي النتيجة حتى حتى الآن: أكثر من 25٪ من مواطني أوكرانيا خسروا بيوتهم، ونحو تسعة ملايين أوكراني، (حسب إحصاءات وتقديرات الأمم المتحدة)، أصبحوا لاجئين في دول أوروبا الغربية وغيرها. وما زالت أمريكا تحرّض أوكرانيا على مواصلة القتال.. ربما حتّى آخر جندي أوكراني.
4ـ لم يتعلم بايدن وإدارته دروس صمود الشعوب والدول في وجه العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الإدارات الأمريكية السابقة على الشعوب والدول، وآخرها وأبرزها ما نراه في إيران.
رغم ذلك، اعتمد بايدن تلك السياسة الحمقاء، وفرض عقوبات غير مسبوقة على روسيا، أدّت، حتى الآن الى نتائج عكسية تماما. آخر ما يثبت فشل هذه السياسة، هو ما أوردته جريدة نيويورك تايمز في افتتاحيتها يوم السبت الماضي، 30.7.2022، من أن معدّل دخل روسيا من صادرات النفط في شهر مايو/أيار 2022 بلغ 883 مليون يورو يومياً، في حين أنه كان 633 مليون يورو يومياً في شهر مايو/أيار السنة الماضية، 2021، ما يعني ضخ مليار يورو اضافية كل أربعة ايام في الخزينة الروسية، بـ«فضل» العقوبات الاقتصادية التي فرضتها أمريكا، وهذا مجرّد مثال فقط.
5ـ بعد كل حلقات مسلسل فشل السياسات الأمريكية هذا، تأتي حلقة زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، الى تايوان، (فورموزا سابقا)، رغم كل تحذيرات الصين المتكررة والجدّية. هذه الخطوة الأمريكية ليست أكثر من تكرار خبيث وشرّير لخطوة التحرّش بروسيا، وستلقى، بكل تأكيد، نفس المصير.
يبدو أن زحزحة أمريكا عن التفرّد على رأس هرم العالم، وفرض نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب، تسبب في فقدان أمريكا لعقلها، وأخذت بالتخبّط واعتماد سياسات غير حكيمة، والمؤسف والمحزن أنها بالغة الدّموية.
ماذا عن فلسطين؟ في النظام العالمي الذي كان سائداً في مطلع القرن الماضي، تخلصنا من نير الإمبراطورية العثمانية، لنقع تحت نير الانتداب/الاستعمار البريطاني، ولنعاني من تمزيق «بلاد الشام» الى أربعة كيانات سياسية، منها وطننا فلسطين، الذي استفردت به بريطانيا، وقدّمته لقمة سائغة للحركة الصهيونية العنصرية. وبانتهاء الحرب العالمية الثانية، وتشكيل نظام عالمي ثنائي القطبية، انسحبت بريطانيا بعد ان ضمنت قدرة الحركة الصهيونية على إقامة «دولة إسرائيل». وعندما نجح الزعيم العربي، جمال عبد الناصر، مع جواهر لال نهرو (الهند)، وجوزيف بروز تيتو (يوغسلافيا) وتشو إن لاي (أول رئيس وزراء لجمهورية الصين الشعبية)، وغيرهم من الزعماء، في تشكيل «حركة عدم الإنحياز»، تم تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية وتمكّنت «فتح» من توجيهها، باقتدار، وأعادت توحيد قوى الشعب الفلسطيني في الوطن ودول اللجوء والشّتات.
ومع انهيار الإتحاد السوفياتي، وتلاشي وضعف تأثير ودور «عدم الانحياز»، استفردت أمريكا، وتكوّن النظام العالمي أُحادي القطب، وكان نظاماً كارثياً على فلسطين وشعبها.
تشكّل نظام عالمي جديد، متعدد الأقطاب، هو شعاع أمل كبير يبشّر بنهاية نفقٍ مظلم طويل، امتدّ لأكثر من ثلاثة عقود.
القدس العربي