النتيجة المثيرة للجدل التي توصل لها "الباروميتر العربي" في استطلاعه الأخير أن الديمقراطية ليست الحل السحري لمشاكل العالم العربي.
قبل 10 سنوات وأكثر بقليل، كانت أصوات الناس هادرة في العواصم العربية تُطالب بإسقاط الأنظمة المستبدة، ورافعة شعارات تُنادي بالحرية.
كان ذلك فيما سُمي لاحقا "الربيع العربي"، وفي كل الساحات، والميادين التي اندفع إليها الشباب الثائر، كانت الشعارات تربط بين الحرية ورغيف الخبز، وهذا يعني بالتأكيد استحضار قيم العدالة الاجتماعية.
العقد الماضي لم يكن مُبشرا لمن يرون أن الديمقراطية هي البلسم الشافي للأمراض التي تنخر البلدان العربية، فسقوط حكومات ديكتاتورية ربما لم يُصاحبه تحولات جذرية في البنى المجتمعية، فالمشهد الواقعي أكثر تعقيدا من تغيير صور الشخوص التي تحكم، ولندقق في صورة الوضع في اليمن على سبيل المثال؛ هل كان يكفي مقتل الرئيس علي عبد الله صالح لبدء تبلور، ونشوء دولة ديمقراطية، حتى لو استبعدنا العوامل، والتدخلات الخارجية؟، هل يكفي إزاحة الرئيس من سدة الحكم حتى نشهد تحولات، ويمضي اليمن نحو إنهاء دور القبيلة التي تتقدم على دور الحزب الحاكم؟
المقاربة التي يمكن أن تُقرأ في اليمن، يمكن أن نجدها في ليبيا كذلك، فمقتل الزعيم معمر القذافي لم يكن قادرا على إنهاء سطوة القبائل على الحكم، والسباق نحو الانتخابات، وصناديق الاقتراع لا يمكن أن يصنع دولة كان القذافي قد اختزلها بشخصه، وفي منظومة فلسفته "الكتاب الأخضر".
إذن الديمقراطية في العالم العربي رغم أهميتها، وضرورتها، فإنها لا تحمل كل الإجابات، فأسئلة الوضع الراهن الاقتصادي، والبنية الاجتماعية المتشابكة، والمعقدة، واحتياجات الناس للأمان، والاستقرار، وشعورهم بالاطمئنان إلى مستقبلهم لا يمكن أن تصنعه الانتخابات وحدها، وحتى لو كانت نزيهة مئة بالمئة، ولا يقدمه حاكم، أو حزب حاكم على طبق من ذهب إلى شعبه الذي يعيش حالة من البؤس.
ثلاثة استخلاصات هامة توصل لها استطلاع الباروميتر العربي تحتاج إلى مراجعات؛ أولها أن الديمقراطية ليست وصفة قاطعة للتغلب على ضعف الأداء الاقتصادي، والثاني أن النظم الديمقراطية غير حاسمة، ومترددة، والثالث أن الديمقراطية لا تجلب بالضرورة الاستقرار، والأمان.
الملاحظة المهمة أن التحولات في مزاج، وآراء الناس في البلدان العربية كانت تتغير منذ بدء الربيع العربي عام 2010، وصولا إلى عام 2022، ونموذج صارخ على هذه النتيجة أن 17 بالمئة من العينة المستطلعة آراؤهم كانت تقول إن الديمقراطية ترتبط بضعف الأداء الاقتصادي، وتزايد هذا المؤشر حتى وصل إلى 70 بالمئة، وبالتفصيل في الأردن كانت النسبة 39 بالمئة عام 2010، وبلغت 57 بالمئة عام 2022، وفي المغرب كانت 8 بالمئة عام 2018، وصارت 43 بالمئة هذا العام.
استطلاع الديمقراطية الذي أنجزه الباروميتر العربي، وهي شبكة بحثية مقرها جامعة برنستون، وشريكها الإعلامي شبكة (BBC)، يستشعر تراجع حالة التفاؤل بفرص بناء الديمقراطية في العالم العربي، والأهم قدرتها على التغيير، وصناعة الأمل بحياة أفضل عند الناس.
حتى الآن تشعر الغالبية في المجتمعات العربية أن الديمقراطية النموذج الأفضل للحكم، ولكن فقه الأولويات مختلف، فهم يدركون أن الديمقراطية لا تطعمهم خبزا بشكل فوري، وعاجل، فالتحولات الديمقراطية التي سادت في بعض البلدان بعد عام 2010 لم تحل قضية الكساد لاقتصادي، ولم تتغلب على مشكلة تزايد معدلات البطالة، ولم توقف حالة التوحش في كُلف المعيشة.
قبل ثورة الياسمين في تونس التقيت بمستشار رئيس الجمهورية في عهد الرئيس الأسبق بن علي، وفي النقاش حدثته عن انطباعاتي أن تونس لا تواجه مشكلة نمو اقتصادي، وحتى حين تتجول في "الجهويات" - المناطق خارج العاصمة – لا تشعر بملامح الفقر واضحة، ولا ترى مظاهر التسول في الشوارع، ولا تسمع شكوى بصوت مرتفع من البطالة، وأن أكثر ما يُقلق التضييق على "حرية الكلام"، والإعلام، ومن الضروري فتح نوافذ لفضاء الحرية، فلا يجوز أن يُطبّق ما يقولوه السوريون في الغرف المغلقة "لا نفتح فمنا إلا عند طيبب الأسنان".
لم يُصغِ نظام بن علي لكل النصائح بتخفيف القبضة الأمنية، وبفتح كوة للحرية، فكان أول الساقطين في "الربيع العربي"، وكلمة "الآن فهمتكم" التي أباح بها بن علي في خطابه الشهير قبل هربه لم تنقذه، ولم تشفع له.
لكن الديمقراطية التي جاءت بعد بن علي لم تنقذ تونس، والفرح بفضاء الحريات الواسع، والبرلمانات التي تعج بالخطابات الرنّانة لم تقدم للتونسيين ما يُغيّر حالهم، فيشعرون أن متلازمة الحريات، والحياة الكريمة قد تحققت، بل على العكس ساد شعور بالخذلان، وتعمقت الأزمة الاقتصادية، وبدأ الجوع يحاصر بيوتا في تونس، وباتت جموع من التونسيين على قناعة أن زمرة ضيقة من المتنفعين جيّرت الديمقراطية لخدمة مصالحها السياسية، والاقتصادية، وزاد التزاوج بين السلطة السياسية بأطيافها المختلفة - إسلامية أو غير إسلامية – ورجال المال، ولهذا كانت البيئة مُهيأة، وخصبة لكل الإجراءات، والتدابير التي اتخذها الرئيس قيس سعيد، والتي وصفت بأنها "انقلاب" على الديمقراطية، لكن كثيرا من الناس لم تكن تبالي، فالديمقراطية إذا لم يقطفوا ثمارها حياة كريمة فهم لن يدافعوا عنها، وربما يقول آخرون في تونس، وفي غيرها من البلاد، حاكم متفرد، أو مستبد يجلب المنافع لشعبه أفضل من شلة تحكم باسم الديمقراطية، ولا تحل مشاكل العباد.
المقاربة في تونس ما بين الديمقراطية التي لم تحل المشكلات، وبات نظامها مهددا اقتصاديا، قد تراها في دول أخرى تمتلك هوامش ديمقراطية، لكن الأزمات تنخرها، وتذهب بالبلاد للهلاك.
لبنان نموذج آخر، فالانتخابات تجري، ولكنها تُعيد إنتاج التوازنات الطائفية، والصراع على السلطة بين الأحزاب يُعطل مكنزمات عمل الدولة، وتقترب الدولة من حد الإفلاس، والعملة الوطني يُطاح بها، والناس لم تعد قادرة على تدبير احتياجاتها للحياة، ويُفاقم الأزمة انقطاع الكهرباء، وفقدان للمشتقات النفطية، وحتى الدواء بات توفره عسيرا، وبعد كل هذه الأوضاع من يبالي بهذه الديمقراطية التي تجلب الشقاء كل يوم؟
ويمكن أن تُسحب ذات المسطرة على العراق منذ سقوط نظام الرئيس صدام حسين قبل 20 عاما تقريبا، وفي ظل حكمه كانت أبجديات الديمقراطية غائبة، ولكن المجتمع لم يكن يُعاني - خاصة قبل الحصار – من أزمات اقتصادية، أو مخاوف، وهواجس أمنية، ولم تكن الطائفية حاضرة في المشهد السياسي.
بعد صدام جاءت الانتخابات، ووصلت حرية التعبير حدود الفوضى، وانتشرت الأحزاب بعباءات طائفية، وبعد أن كان هناك حاكم مستبد واحد، تعددت المرجعيات، والسلطات الحاكمة التي تدثرت بالديمقراطية، غير أنها لم تنقذ البلاد الغارقة في الأزمات.
الحقيقة أن العالم يتغير، والديمقراطية تنحسر، ليس في الإقليم العربي الذي يُصنف بأنه الأكثر استبدادا، بل تتمدد الأنظمة الشعبوية التي لا تهتم بقيم الديمقراطية، وتغزو حتى البلدان الغربية، ويطفو على مشهد الأحداث السياسية زعماء لا يؤمنون بحرية التعبير والإعلام، ولا يحترمون قواعد حقوق الإنسان، ولا ينسى العالم الظاهرة "الترامبية" التي كادت أن تكتسح حتى في أوروبا مع صعود اليمين المتطرف.
والنقاش في العالم الآن إن كانت الديمقراطية السبيل الوحيد لتحقيق التنمية الاقتصادية، ويأتي النظام الصيني ليضرب هذه النظرية بمقتل، فهو الأكثر نموا في ظل حزب لا تحكم سيرته، وممارساته آليات العمل الديمقراطي، وفي ذات الطريق يُحكم بوتين قبضته على روسيا، ويحاول أن يتمدد ليُعيد بناء الإمبراطورية القيصرية بلا كلام مُنمق، ومعسول عن الديمقراطية، وحكم الشعب.
النتائج التي كشفها استطلاع الباروميتر العربي ليست مفاجئة، ولا صادمة لمن يعيشون الواقع في العالم العربي، وقد تقود هذه الحقائق التي ترسخت في عيون الناس، ووجدانهم إلى سؤال إشكالي؛ ما العمل، وما هو الطريق لتنجو بلادنا من أزماتها، ألا يحق لشعوب هذه المنطقة أن يعيشوا حياتهم دون رعب؟، ويتمتعوا بثروات بلدانهم، ويجربوا معنى رغد العيش؟
المصدر : الحرة