إسرائيل 2048م.. والأوان الذي فات!
سيكون هاما أن نعرف أن إسرائيل بالنسبة للحضارة الغربية ليست شأنا دينيا فقط كما تقول السردية الكذوبة عن أرض الميعاد، ولا حتى شأنا تاريخيا فقط يُكفّر به الغرب عن ذنوب العقود الطويلة في التحقير والحط من هذه الفئة الدينية، سواء كان ذلك "جزاء لهم" عن أفعالهم في حق المجتمعات الغربية كما دونها التاريخ الاجتماعي في القصص والمسرحيات (شكسبير/ ديكنز..) أو كان مبالغة الغرب في محاسبتهم على أخطائهم الأولى في حق السيد المسيح.
ليست هذه الأسباب ولا تلك ولم تكن أبدا في يوم ما.. ومهما تقولت الأقاويل ومهما تصايحت الصيحات سنعرف دائما وواقعا وأبدا أن السبب الحقيقي هو مصالح الغرب في الشرق الإسلامي.
وهي مصالح استراتيجية كبرى وضخمه ومصيرية، منها ما هو فكرى وفلسفي يتعلق بفكرة "الإنسان القويم"، والذي يعتبر وجوده المعول الكبير في تحطيم أفكار ونظريات الغرب عن الإنسان وحياته ومصيره بعد عقود وقرون من الفلسفات التائهة التي لم تفض في نهايتها إلى سعادة الإنسان وتحقيق غايات وجوده.
ومنها ما هو استراتيجي يتصل بمنع قيام دولة عربية كبرى (متصلة الأراضي والمدن والبلدات)، خاصة في المساحة الممتدة من جبال طوروس جنوب تركيا مرورا بالشام وسيناء ووادي النيل حتى منابعه الجنوبية، وفي المركز من تلك البقعة الاستراتيجية الكبرى كانت وقامت إسرائيل..
إسرائيل إذن شأن غربي بحت، ويتصل بالعمق العميق لأمان الحضارة الغربية واستمرارها على ما هي عليه، وهو ما يبحثه الغرب من بدايات القرن الماضي ويبحث فيه باهتمام وقلق وحرص
إسرائيل إذن شأن غربي بحت، ويتصل بالعمق العميق لأمان الحضارة الغربية واستمرارها على ما هي عليه، وهو ما يبحثه الغرب من بدايات القرن الماضي ويبحث فيه باهتمام وقلق وحرص.
ففي عام 1905م دعا حزب المحافظين البريطاني الدول الاستعمارية الكبرى في العالم (بريطانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، إسبانيا، إيطاليا) إلى مؤتمر في لندن برعاية رئيس الوزراء البريطاني وقتها هنري كامبل بانرمان (ت 1908م)، الرجل الذي كان على رأس مرحلة تحول هامة في التاريخ الاستعماري الإنجليزي..
تقول الدراسات المهتمة بالتاريخ الاستعماري الغربي إن هذا المؤتمر استمر يتداول ويتناقش عامين كاملين حتى عام 1907م، وخرج بتوصيات بالغة الأهمية عرفت تاريخيا باسم "وثيقة كامبل" التي ستختفى تقريبا من أي مصدر تاريخي يتناول دراسة تلك الحقبة الأخطر (حقبة التحضير للحرب العالمية الأولى 1914- 1918م).
قال كامبل في افتتاحية المؤتمر: إن الإمبراطوريات تتكون وتتسع وتقوى ثم تستقر إلى حد ما.. ثم تنحل رويداً رويداً.. ثم تزول، والتاريخ مليء بمثل هذه التطورات وهو شأن ثابت ولا يتغير.. وألقى في وجوه الحاضرين بسؤاله القنبلة: هل لديكم وسائل يمكن أن تحول دون سقوط الاستعمار الأوروبي وانهياره.. أو حتى تؤخر مصيره؟
لقد بلغنا الآن الذروة وأصبحت أوروبا قارة قديمة، استنفدت مواردها وشاخت مصالحها بينما لا يزال العالم الآخر (الشرق) في صرح شبابه يتطلع إلى المزيد من العلم والتنظيم والرفاهية.. هذه هي مهمتكم أيها السادة وعلى نجاحها يتوقف رخاؤنا وسيطرتنا ومستقبلنا.
"وثيقة كامبل" أخطر مما يتصور الكثيرون لأنها أسست لمفاهيم عديدة؛ أهمها التلاقي بين المشروع الاستعماري الغربي وبين المشروع الاستعماري الصهيوني.. وهو ما كان دائما، وما هو كائن حاليا، لكن هناك شك كبير في أنه سيكون!.. نعم هناك شك!
"وثيقة كامبل" أخطر مما يتصور الكثيرون لأنها أسست لمفاهيم عديدة؛ أهمها التلاقي بين المشروع الاستعماري الغربي وبين المشروع الاستعماري الصهيوني.. وهو ما كان دائما، وما هو كائن حاليا، لكن هناك شك كبير في أنه سيكون!.. نعم هناك شك! لأسباب تتعلق بالقوانين التاريخية الطبيعية عامة، أو تتعلق بتاريخ بنى إسرائيل خاصة..
والسؤال الذي يطل برأسه دائما من كل نافذه استراتيجية (خاصة في أوروبا وأمريكا) يتعلق باستمرار هذه الدولة الاسرائيلية التي تبدو قوية من الخارج، ولكنها هشة في جوهرها بما يثير قلقا غربيا عميقا.
سنة 2017 عاش الكاتب الإنجليزي بول ألستر (50 سنة) في إسرائيل لمدة 23 سنة.. من التسعينيات تقريبا.. كان مراسلا صحفيا بعض الوقت ومخبرا أغلب الوقت.. وعادة ما تكون هذه الصفات الوظيفية تصب في مصب واحد: "المعلومات الاستخبارية".. مستر ألستر أجرى مقابلات مع طوب الأرض في المجال العام والخاص الإسرائيلي: السياسي والديني والثقافي.. يقول: بعدها.. شعرت أن هناك قصة تحتاج إلى سردها حول مستقبل دولة إسرائيل.. وبالفعل صدرت القصة سنة 2020م بعنوان "العشيرة أم الدولة/ إسرائيل 2048م".
والرواية عبارة عن رحلة خيالية عبر الزمن إلى عام 2048م.. بعد أن تم اتفاق سلام بين إسرائيل والقيادة الفلسطينية، وتم دمج جزء من الضفة الغربية في دولة فلسطين الجديدة، وأصبحت القدس الشرقية عاصمتها.. أما غزة فأصبحت تحت إشراف دولي، ووافقت الدول العربية التي كانت تؤوى أحفاد اللاجئين الفلسطينيين على منحهم الجنسية.. وأشرقت شموس التاريخ بحقيقة مدهشة للغاية: لم يعد هناك خلاف إسرائيلي فلسطيني!!
ومن هنا خرجت الانطلاقة التي مثلت عمود الفكرة في رواية بول ألستر، وهي "الاختلاف العميق" داخل إسرائيل نفسها.. الاختلاف بين التطلعات السياسية وأسلوب الحياة الدينية للأرثوذكس المتطرفين وعلاقتهم بالعلمانيين..
اتسعت الفجوة إلى درجة الاقتراب من الحرب الأهلية.. أصبحت القدس والمناطق اليهودية المتبقية في الضفة الغربية وعدد من البلدات المجاورة متطرفة أرثوذكسية، بينما أصبحت أجزاء أخرى من البلاد مع تل أبيب علمانية للغاية
لقد اتسعت الفجوة إلى درجة الاقتراب من الحرب الأهلية.. أصبحت القدس والمناطق اليهودية المتبقية في الضفة الغربية وعدد من البلدات المجاورة متطرفة أرثوذكسية، بينما أصبحت أجزاء أخرى من البلاد مع تل أبيب علمانية للغاية، تعقدت الأمور إلى حدود أن الكنيست قرر إجراء تصويت على استفتاء بتقسيم البلاد إلى دولتين، دولة المتطرفين وعاصمتها القدس، ودولة العلمانيين وعاصمتها تل أبيب.. وتستمر الرواية في اتجاه واضح يشير إلى النهاية.. ليست نهاية الرواية ذاتها! بل نهاية ذاك الكابوس العارض في تاريخ الشرق العربي والإسلامي..
الحاصل أن السؤال الذي يلف ويدور عليه الكاتب طوال الرواية هو عما ما إذا كانت إسرائيل ستبقى أمة موحدة.. هل ستبقى الدولة اليهودية الوحيدة في العالم؟ أم أن تكون دولتين، واحدة علمانية والأخرى دينية..؟؟
ويخرج لنا من تلك الفانتازيا الحقيقية، ونادرا ما تكون الفانتازيا حقيقة لكنها حين تتصل بهذا الموضوع في أي جانب من جوانبه تصبح في الحقيقة أم الحقائق!.. تقول تلك الحقيقة إنه من الممكن لأي أمة مواجهة التحديات الأمنية التي تهددها، لكن حين يتعلق الأمر بالهوية وتماسكها وتفككها.. فهذا مما لا يمكن التغلب عليه ولا حتى مواجهته.
عربي 21