مرساة الكلام ولجامه
من طريف تجربتنا مع الكلام وهو في ذاته تجربة وناقل لبقية التجارب، أنّنا نستعير له ما يفيد معنى السفر. ليس الطريف في هذه الاستعارة أنّها تقترض تجربة فيها حركة في الفضاء لكلام لا يغادر الفضاء، بل الطريف فيها أن السفر حين يرتبط بالكلام لا يقع عليه في ذاته، كما هو في مألوف الاستعارات، بل يقع على ما يتصل به من أعمال ومواقف وسلوكات أخرى.
في عبارة متداولة عندنا في تونس نقول عن شخص مذبذب لا يقرّ على رأي ولا يثبت على موقف إنّه (كلمة تهزّ وكلمة تجيب) أي ما تفصيحه حرفيا (أنّه كلمة تَحْمل وكلمة تُرجع). أن تحملك كلمة بعيدا فتهجر أو تغضب، وترجعك أخرى فتدنو وتطلب القرب، لا يعني أن الكلام يسافر، بل هو يسافر بسامعه هذا المذبذب الذي ليس في ذهنه بوصلة ذاتية تحدّد له المسارات الصحيحة والمواقف الهشة. شخص كهذا أضاع بوصلته وهو يعيش على توجيه الناس بالكلام الوجهة ونقيضها. دقيقة جدا استعارة الذهن الذي يضيع البوصلة، سنرى في الآتي من الكلام كيف أن العلماء يقولون إنّه من الطبيعي أن يضيع ذهنك بوصلة، لأنّه لم يخلق لكي يستدلّ بالمعطيات القليلة أو المضللة على المواقف الصحيحة. حين نقول في عاميّاتنا العربية (رسّيني على برّ ) فهذه ليست شكوى من أعوزه العقل الحصيف، بل ينبغي أن تكون شكوى الإنسان الذي يستخدم في حياته اليومية وسائل بدائية في الإدراك ليبني بها أفكارا عظيمة. لكننا نظل نبحث عن الإرساء وحين يحدث يمكن أن نجد أنفسنا على الأرض الخطأ وعلى القرار الهجين.
الإرساء، أو بالتحديد «أثر الإرساء» Anchoring Effect مصطلح في علم النفس العرفاني يعني، أن المرء يظلّ منحازا إلى رأي معيّن ولا يُغيّره حتى إن كان خاطئا. وهذا الانحياز يكون نتيجة لبناء رأي مسبق اعتمادا على موقف أو كلام. فكرة أثر الإرساء هي فكرة تقوم على ما يسمّى التحيز العرفاني bias Cognitive التي تعود إلى عاموس تفارسكي Amos Tverski ودانيال كانيمان Daniel Kahneman وتعني أن البشر قد يبنون آراء ومواقف على أسس استدلالية وقياسية خاطئة؛ هي بالتالي ميول إلى التفكير بديهية، تقود إلى اتخاذ جملة من من القرارات الخاطئة غالبا. ويذهب الباحثان وراء سؤال يعتبرانه مهمّا وتأسيسيا: ما هي الأسباب التي تجعل البشر يتخذون القرارات (بقطع النظر عن صوابها أو عدمه) على الرغم من أن مصادرهم محدودة.
وعلى العكس من المتوقع فإنّ البحوث لا تتهم أصحاب القرارات الخاطئة، بل تتهم أنظمتنا العرفانية البشرية، مثل نظامنا الإدراكي الذي صُمّم لبناء استنتاجات بناء على معطيات غير كاملة هي التي تُوقع في الخطأ. لنفترض أنّك قابلت شخصا لا تعرفه لأوّل مرة وهو طرف في خصومة كلامية أو فعلية، ستظلّ تذكر هذا الشخص بمجرد أن تراه يوميا في محطة القطار، وسوف يترسّخ في ذهنك عنه موقف: أنّه عنيف مثلا. سيظل ذلك الموقف راسيا في ذهنك عنه، على الرغم من أنك ستراه في كل يوم بعد ذلك هادئا، وربما ابتسم لك وحياك بأدب، أو قدّمك عليه عند باب القطار، إلاّ أن تاريخا كاملا من الأدب لن يغير موقفك منه على أنّه شخص صدامي عنيف.
لقد ساهم «أثر الإرساء» في أن تحمل عنه موقفا تظل منحازا إليه ولا تغيره مهما حدث.
لنفترض أنّك تبحث عن امرأة صالحة تريد أن ترتبط بها، فتراقب جميلة يختارها حدسك لنيّة الارتباط بعد الاختبار، ستراها وحيدة صامتة هادئة، لكنك في مرة من المرات ستراها برفقة امرأة تضحك بصوت عال أو تتكلم بلا مراقبة ، سيمثل ذلك بالنسبة إليك نقطة إرساء تبني انطلاقا منها موقفك المقبل: ما دامت تخالط هذه المرأة فإنّها لا تصلح لي زوجة. طبعا ستراها بعد ذلك وحيدة صامتة هادئة وترى أنّها إن تكلمت لن يكون في كلامها ما يثير الانتباه ولا الاشمئزاز؛ لكنك ستكون قد تحيزت لذلك الموق،ف وثبتّ عليه وإن كنت بنيته اعتمادا على معطيات استدلال خاطئة: فأنت أرسيت موقفك على وضعية واحدة استدللت منها على ما استدللت واستنتجت ما استنتجت وقررت ما قرّرت. المواقف الخاطئة التي تبنى على استدلالات ظرفية، أو على أثر إرساء معين هو ما يمكن أن نجده في كثير من وضعياتنا في الحياة اليومية. فالتحيّز العرفاني السالب يمكن أن يدرك في كثير من تأويلاتنا المذمومة للكلام. حين يسمع زوج زوجته تستعمل عبارة «اشتقنا لك» لمن تهاتفه ستكون العبارة نقطة ارتكاز تثير الانتباه وتجعله «يوقف أذنيه» ويتسقط الكلام حتى تنتهي المكالمة ويعرف من تهاتف. التحيز العرفاني السالب هو الذي يجعل الرجل لا يقبل هذه العبارة القبول الحسن، لأنّه سيبني عليها استنتاجات قد تكون في بعض الأحيان في بوابة الاستدلال على سلوك الزوجة، لكنّ الزوجة لن تقول هذه العبارة لكلّ من هبّ ودبّ بحضرة زوجها لأنها تعلمت منه، أو من غيره أنّه سيتحيز ضدها بعد أن يستنتج من قولها ما يستنتج. فعبارة «اشتقنا» قد دجّنت وباتت من الكلام الذي يحرّم أن يقال خارج دائرة العلاقات الشرعية المبنية على تملك الأنفس وتملك الأجساد كعلاقة الزواج.
يحتاج الذهن أن يجد نقطة إرساء كي يتخذ موقفا، ففي الأنشطة الكلامية دائما ما تهيمن الثقافات التي تتخذ مثالا مرجعيا على غيرها. في تونس وحين يقدم كثير من طلبة القرى إلى المدينة، فإنّ كثيرين منهم يغيرون سلوكهم اللغوي الدال على انتماءاتهم الجغرافية، كأن يستبدل طلبة الداخل حرف الڤاف (الفاء المثلثة) التي في لهجتهم الأصلية بالقاف الحضرية، التي في لهجة مدن الساحل التي ينتقلون إليها لطلب العلم. هذا التحيّز اللغوي نابع من استنتاج خاطئ لسانيّا: أن هناك لغة حضرية متقدمة وأخرى بدوية هجينة. لا يتورّع الناس اليوم على شبكات التواصل الاجتماعي عن أن يدلوا بدلوهم في مسائل ليس لهم فيها قارب متين يقلّهم ولا لهم مرساة ترسيهم. التفكير داخل حدود عدم اليقين والتكلم في دائرته هو شأننا حين «نهرف بما لا نعرف». حين أكون محللا سياسيا، وليس لي باع ولا ذراع في الدراسات الاستراتيجية، وفي المعرفة بالاتجاهات السياسيات الكبرى، وفي العلاقات الدولية وفي تقاطع السياسة بمسائل الاقتصاد، فأنا أيضا أهرف (أهذي ) بما لا أعرف. الموقف المقابل هو الذي يصنعه الحذر من التحيزات العرفانية الخاطئة، في هذه الحالة يصبح الكلام مختارا منمّقا إذا ما تعلق بالخوف مثلا من سلطة تؤاخذ الناس على أقوالها، بقطع النظر عمن تكون السلطة: أكان زوجا مراقبا، أم عالم دين متشددا، أم حاكما يصبح بأمره الكلام في هذا السياق من المراقبة نشاطا أفضل منه الصمت أو الإلجام على حدّ عبارة شهيرة للغزالي دبجها في أحد عناوين كتبه، أن تلجم نفسك أو يلجمك غيرك بواسطة الخوف منه، فذلك تاريخ كامل يرتبط بالمراقبة الذاتية القسرية. كل من أراد أن يكمّم الناس اعتبر اللجام حديدة في الفم، وكلّ من وصف الأشياء من أعاليها اعتبرها طقما من أطْقُم الحصان.
يسافر الكلام على صهوة حصان وأنت تجلس على صهوته مستمعا إلى من حولك.. يمكن أن يقودك ذهنك الذي فيه عجز متأصّل، إلى أن تفهم فهما خاطئا ما يُقال.. فتقرر ألاّ تسمح للكلام بأن يسافر خارج أطر محدودة.. ستضع لمخاطبك المسافر بالكلام حدودا وتريد وأنت على ظهر الحصان أنك تلجمه فلا يتكلم، لكنّ قوّة الكلام أن مخاطبك المحروم من الكلام سيتكلم على ألسنة الناس وهم يتكلمون عنك وعنه وعنّا بما يستقيم أنّه تأويل حقيقي، أو بما لا يستقيم لأنّه تأويل مذموم أرست به محامل عرفانية قاصرة، وبنت به مواقف بناها عقل محدود التصريف وذهن محدود الخلق.
القدس العربي