عن أي ديمقراطية نتحدث؟
في كل يوم ينكشف للإنسان ما يصدم بعضاً من قناعاته السابقة. فقد قرأت مؤخراً كتاباً للصحافي والكاتب الإنكليزي أوليفر بولوغ، وهو أحد كتّاب جريدة «الغارديان» البريطانية و»نيويورك تايمز» الأمريكية، تحت عنوان «رئيس الخدم للعالم» (Butler to the world). وهو كتاب يحكي دخائل وأسرار انقلاب بريطانيا منذ أوائل خمسينيات القرن الماضي، عندما انهارت كامبراطورية تتحكم في ربع مساحة وشعوب العالم، وأصبحت كأي بلد أوروبي آخر في الوزن والقدرات، انقلابها إلى ممارسة مهنة رئيس الخدم في أمور المال وشتى الخدمات المشبوهة الأخرى.
أولاً غضت الطرف عن بنوكها في لندن، ومؤسسات المحاماة والفاسدين من الشرطة، وحتى الفاسدين من أعضاء البرلمانات النافذين، بأن يقدموا خدمات قانونية ومالية بنكية، ونصائح مشبوهة لكل من يريد التهرب من دفع الضرائب، أو مَنْ سرق أموال بلاده العامة، سواء أكان رئيس بلد فاسداً، أو رئيس مافيا إجرامية، أو من كان يعيش على تبييض الأموال أياً كان مصدرها، طالما أن أولئك الفاسدين المجرمين يدفعون عشرة في المئة من ذلك المال المنهوب، كثمن للحصول على تلك الخدمات والنصائح غير القانونية.
ثم بعد أن ترسخت تلك التجارة في لندن، أصبحت مصدر عمالة للألوف من البريطانيين ومصدر ثروة هائلة للبلاد، أعطت الحق والحرية للجزر والمناطق التابعة للتاج البريطاني، مثل جزر فيرجن البريطانية أو جزيرة كيمن أو جبل طارق، لممارسة تلك التجارية تحت مسميات كثيرة، وبطرق ملتوية كثيرة، لتصبح تلك الأماكن جنات لكل مال فاسد أو منهوب أو متستر، حيث لا ضرائب، وحيث الكتمان والأقنعة الحامية عن أي رؤية أو معرفة من أية جهة متطفلة. تلك الخدمات قدمت للفاسدين والسارقين والمجرمين من روسيا والصين وافريقيا والبلاد العربية والهند وغيرها من بقاع العالم. الخدمة كانت متوفرة لكل من يدفع، من دون سؤال أو تأكد أو شكوك، ويذكر المؤلف أمثلة وقصصاً يندى لها الجبين. النقطة الأساسية في هذا الموضوع هي أننا كنا نعتقد أن الديمقراطية، خصوصاً إذا كانت قديمة وراسخة وكانت مثالاً للبشرية كالديمقراطية البريطانية، ستمنع وجود مثل تلك التجارة والممارسات غير القانونية وغير الأخلاقية، أو على الأقل ستجعل وجودها محدوداً أو كشفها سهلاً، أو لن تشمل رجال قضاء وقانون وتشريع. أما أن تكون بالصورة التي أظهرها الكاتب، وأن توجد عبر سبعين سنة، من دون أن يوقفها قانون أو صحوة ضمير، أو انزعاج ورفض من قبل مؤسسات المجتمع المدني، فذلك يمثل إشارة واضحة لعجز في النظام الديمقراطي، الذي كنا نعتقد أنه أحد أهم أعمدة حماية المجتمعات والصالح العام والقيم الأخلاقية. ولكن هل أن تلك الصدمة لا تشير إلى سذاجتنا نحن؟ فضائح الأخطاء والممارسات التي ترتكبها الدول الأوروبية الديمقراطية وأمريكا الديمقراطية في موضوع أوكرانيا وحربها العبثية، ألا تزكم الأنوف؟ ألا تشير إلى عجز غريب في ديمقراطيتهم؟ وفي أمريكا، عندما يكتب جورج مونبيوت في كتابه «للخروج من الدمار»، وهو يقصد دمار الحياة السياسية والاقتصادية في بلاده، عندما يكتب بأن نظامهم الديمقراطي مليء بسوء الاستعمال والفساد، وأنه يقوي الأقوياء والمسيطرين ويضعف الضعفاء والمهمشين، بدلاً من أن يفعل العكس، ألا يؤكد أنه ما عادت هناك ممارسة ديمقراطية حقيقية أخلاقية عادلة في أعرق الديمقراطيات الغربية؟
ما يهمنا، نحن العرب، أن يدرك المعتقدون بأن الديمقراطية وحدها هي المدخل لحل كل مشاكلنا، بأن الحل الديمقراطي ليس حلا سحريا، إلا إذا حددنا بصورة واضحة مكونات الديمقراطية والأسس التي تقوم عليها عبر القيم الإنسانية والأخلاقية التي تحكمها، والممارسة التي تتجنب وترفض وتحارب انتهاكها، لتكون أداة في يد أقلية، وإنما بقاؤها أداة فاعلة وعادلة في يد أغلبية المواطنين الواعين المتابعين لسيرورتها طيلة النهار والليل لخدمتهم وخدمة كرامتهم الإنسانية. من دون ذلك سنعيش أوهاماً بليدة، تماماً كما يعيشها الكثير من أنظمة الديمقراطية في العالم، وكما أرانا هذا المؤلف الشجاع في كتابه المبهر.
القدس العربي