هل يتدهور التطبيع التركي إلى المستوى العربي؟
قوبل القرار باستئناف كامل العلاقات الدبلوماسية بين أنقرة وتل أبيب، بتفاؤل إسرائيلي مشوب بحذر خفيف وباطمئنان إلى أن هذا التطبيع المجدّد يعكس نوايا تركية جدّية بتحسين العلاقات مع الدولة العبرية، خاصة أن تركيا، كما تقول المصادر الإسرائيلية هي التي بادرت وسعت وألحّت على هذه الخطوة.
وزفّ رئيس الوزراء الإسرائيلي يئير لبيد الخبر، مشيرا إلى أنّه تقرر إعادة السفيرين والقنصلين، واستبشر بأن «تبادل السفراء سيسهم في تعميق العلاقة بين الشعبين، وتوسيع العلاقات الاقتصادية والتجارية والثقافية، وتعزيز الاستقرار الإقليمي». أمّا وزير الخارجية التركي فقد سارع إلى القول بأن تركيا «لن تتخلّى عن القضية الفلسطينية»، مضيفا أن «تعيين السفيرين هو أحد خطوات تطبيع العلاقات»، ملمّحا إلى خطوات مقبلة في الاتجاه نفسه.
لم يتهم أحد تركيا بأنّها بإعادة سفيرها إلى تل أبيب، قد تخلّت عن القضية الفلسطينية، لكن من الواضح أن التحرك التركي هو باتجاه الاقتراب أكثر من إسرائيل، والابتعاد أكثر عن فلسطين، والتوغّل بهذا الاتجاه قد توصل إلى نقطة الحياد بين ديناميكية العدوان الإسرائيلي وحراك التحرر الفلسطيني، وإذ يخفّ التعويل على ثبات موقف القيادة التركية بـ»عدم التخلّي عن القضية الفلسطينية»، فإن ما يعوّل عليه أكثر هو الدعم الثابت للشعب التركي للقضية الفلسطينية. ثم ما معنى «عدم التخلي» وتركيا تطبّع مع إسرائيل، التي تواصل السياسات ذاتها والممارسات نفسها؟ لقد سحبت تركيا سفيرها من إسرائيل في أعقاب الاعتداءات الإسرائيلية الوحشية عام 2018 على المتظاهرين على الجدار في غزة، فهل تغيّر نهج العدوان الإسرائيلي حتى تعيد تركيا سفيرها؟ وهل لمست تركيا أصلا نيّة لدى إسرائيل بإجراء أي تغيير في سياساتها في الشأن الفلسطيني؟ ما حدث فعلا هو أن تركيا أزاحت قضية فلسطين جانبا، ولم تر فيها «عائقا» أمام التطبيع. ادّعى مسؤولون إسرائيليون، أن تل أبيب تجاوبت مع التوجه التركي لتطبيع العلاقات، بعد أن أثبتت تركيا جديتها وحسن سلوكها، ما سمح برأيهم في التغلب على رواسب عدم الثقة التي بقيت بين الطرفين. أمّا تركيا فقد أرادت إتمام مسار التطبيع قبل الانتخابات الإسرائيلية، وبعيدا عن الانتخابات التركية، التي ستجري العام المقبل، أملا بتلاشي تأثير الخطوة على الناخبين الأتراك، الذين لا يحبّون إسرائيل، بأقل تعبير. في كل الأحوال ستحاول تركيا المحافظة على الموقف المبدئي من القضية الفلسطينية، حيث يطرح الرئيس رجب الطيب أردوغان نفسه كمدافع شرس عن الشعب الفلسطيني وعن القدس والأقصى، وقد هاجم إسرائيل بأقسى العبارات وسحب سفير بلاده منها عدّة مرّات. لكن مواقفه تراخت، بشكل مقلق، في الأشهر الأخيرة، التي شهدت اعتداءات إسرائيلية على غزّة والقدس والضفة الغربية. خطوة التطبيع التركية ليست حالة منفردة، بل هي جزء من مشهد عام يجري فيه تطبيع اللاعب الإسرائيلي والدور الإسرائيلي في المنطقة على حساب الشعب الفلسطيني، ولا يمكن أن يكون ذلك إلّا على حساب الشعب الفلسطيني وعبر تهميش قضية فلسطين وتقوية شوكة إسرائيل. لذا كان من المستغرب أن يخرج موقف فلسطيني مفاده أن التطبيع التركي هو في صالح الشعب الفلسطيني، وهذا دليل على الخيال الخصب والمجنّح للخارجية الفلسطينية. كما أن هذا الاستحسان لما هو قبيح، يثير سؤالا حول ازدواجية المعايير بعد إدانة التطبيع العربي، فهل هناك تطبيع «حرام» وتطبيع «حلال»؟ قد يقول قائل بأنّ تركيا ليست دولة عربية، ولا يصح أن نطالبها بأن تكون عربية أكثر من العرب، لكن تركيا نفسها أدانت علنا «السلام الإبراهيمي» وما شمله من تطبيع عربي، كما أن الرئيس أردوغان يرفع راية حماية الإسلام والمسلمين والقدس والأقصى، وهو يذهب إلى التطبيع مع إسرائيل التي تعتدي على الإسلام والمسلمين والقدس والأقصى ليل نهار. الخطر الحقيقي هو أن يتدهور الموقف التركي إلى مستوى مواقف دول التطبيع العربي. الأمل من تركيا أكبر من ذلك، ولهذا الأمل ما يبرره استنادا إلى حضور قضية فلسطين في ضمير ووجدان الشعب التركي، وهو أمر لا تستطيع أي قيادة تجاهله، خاصة وهي تواجه انتخابات ومن المفروض أن تخشى الابتعاد عن الشعب. في تركيا هناك شعب يراقب الحكومة وفي الدول العربية حكومة تراقب الشعب، ودول التطبيع عموما تتجاهل ضمير شعوبها ووجدانها كأمر اعتيادي.
ليس من المتوقّع أن تغيّر تركيا موقفها الرسمي من القضية الفلسطينية قيد أنملة، لكن يجب التحذير من تآكل «مبدأ الربط» التاريخي، الذي اتبعته الدولة التركية منذ الخمسينيات، والذي تربط تركيا بموجبه تطوير علاقتها بإسرائيل بما تقوم به الأخيرة تجاه الشعب الفلسطيني: تشدّد إسرائيلي يقابل بتشدّد تركي، وتحسّن (إن وُجد) يقابل بتحسين العلاقة. ولم يكن هذا المبدأ حبرا على ورق، فكثيرا ما أدّى عدوان إسرائيلي إلى توتّر في العلاقة بين البلدين، وحتى إلى سحب السفراء وقطع العلاقات. يخلو التطبيع التركي من مركّب الإعجاب بإسرائيل والتوق إلى دفء العلاقة معها، كما هي حال بعض الأنظمة العربية، بل يأتي باردا (حاليا على الأقل) تشوبه الشكوك وتغلب عليه لغة المصالح الخالصة والمقيّدة بمحاور وبمجالات وبمستويات وبوتائر محددة، وهو ليس مرشّحا للانفلات، كما يحدث مع التطبيع العربي. ومن محاور التطبيع التركي المجدّد:
أولًا، الأمن حيث عبّرت إسرائيل عن رضاها التام من تعاون الأجهزة الأمنية التركية معها، حين قامت بحملة لإحباط ما ادعته من محاولة خلايا إيرانية استهداف إسرائيليين في تركيا. وفي الأشهر الأخيرة، زار رئيس الموساد تركيا مرّات عديدة في سبيل توطيد التعاون مع الأجهزة الأمنية التركية، وليس معروفا إلى أي مدى تجاوب الأتراك معه، لكن من الواضح أن هناك خط تواصل مباشرا. كما عادت إسرائيل وطالبت تركيا بإبعاد قيادات حماس عن أراضيها، وقد فعلت ذلك جزئيا، لكن من المستبعد أن تستجيب لمطالب إسرائيل، التي تريد دائما «المزيد»، وكذلك لا تلوح في الأفق إمكانية عودة التعاون العسكري مع تركيا إلى ما كان عليه في التسعينيات، فالجيش التركي اليوم يختلف عمّا كان عليه أيّامها. ومع ذلك ترى إسرائيل أن العلاقة بدولة إسلامية كبيرة مثل تركيا تساعدها في مسعاها لعزل إيران ومحاصرتها. وهناك قضية لا تطفو على السطح وهي، أن إسرائيل مرعوبة من إمكانية أن تمتلك تركيا سلاحا نوويا في مرحلة ما في المستقبل.
ثانيا، الاقتصاد هو المحرّك الأهم للتحرّك التركي التطبيعي، حيث يقترب حجم التبادل التجاري مع إسرائيل إلى عشرة مليارات دولار سنويا وهو مرشّح للارتفاع. والمهم في هذا التبادل أنّه يميل بقوّة لصالح تركيا، التي تصل صادراتها إلى أكثر من أربعة أضعاف الصادرات الإسرائيلية إليها، ولكن أكثر ما يهم تركيا هو التعاون مع إسرائيل في مجال الغاز، بدءا بالعمل معا في قضية ترسيم الحدود الاقتصادية المائية، مرورا بتزويد تركيا بالغاز الإسرائيلي لتنويع مصادر الطاقة، وصولا إلى مد أنبوب غاز إلى أوروبا عبر تركيا.
ثالثا، سياسيا تأمل تركيا في أن يعينها تحسين العلاقة مع إسرائيل في الولايات المتحدة، لرفع بعض القيود على تزويدها بالأسلحة. وتسعى تركيا أيضا إلى تحييد إسرائيل، وفك تحالفها مع اليونان وقبرص. كما أن تركيا بدأت تدرك أن علاقاتها بإسرائيل تفيد، لا تعيق، في ترميم العلاقات التركية العربية، إضافة لذلك فإنّه بمنظور تركيا تتطلّب استراتيجية «صفر مشاكل» تليين العلاقة مع إسرائيل أيضا.
تركيا هي دولة مهمّة عالميا وإقليميا، وعلاقتها بالعرب وبفلسطين عميقة ومتشعّبة تاريخيا وحضاريا ووجدانيا، ولكن لها مصالحها وأجندتها، وليس من السهل إقناعها بالعدول عن التطبيع، الذي تراه يعود عليها بفوائد مهمّة. ما يمكن أن يغنيها عن إسرائيل هو تعاون إقليمي شامل في مركزه وفي قيادته الدول الكبرى: مصر وتركيا وإيران. ومصر تحديدا دون غيرها قادرة على قلب الموازين في المنطقة، إن هي بادرت إلى تحالف عربي تركي إيراني، هو المفتاح لحل الأزمات الخانقة في اليمن وسوريا ولبنان والعراق وليبيا، ولتوفير دعم حقيقي لشعب فلسطين وقضيته التحرّرية. الفائدة للجميع عظيمة والمطلوب إرادة وقرارات سياسية.
القدس العربي