مسألة اللغة في الجزائر… والوعي الشقِي

تم نشره الخميس 08 أيلول / سبتمبر 2022 02:07 صباحاً
مسألة اللغة في الجزائر… والوعي الشقِي
نور الدين ثنيو

قرار الرئيس بتعليم اللغة الإنكليزية لأطفال الجزائر، هو في البداية والسياق والنهاية قرار ليس لتنمية البلد ولا لتطوره وترقيته وفق مقتضياته الحضارية والعالمية، التي يجب أن تلح عليها من الداخل، عندما تستوفي وتستوعب النقاش العام لفائدة الجزائر كأمة ومجتمع ودولة. القرار جاء على خلفية توكيد إرادة الرئيس، الذي تبنى صيغة «بأمر من الرئيس» في كل قطاعات البلد، وليس سلك التربية فقط، وهذه الصيغة هي التي تؤكد فراغ الحيز السياسي على صعيد السلطة، التي تحاول دائما أن تملأه بما هو تربوي واجتماعي ودبلوماسي.
قرار فرض اللغة الإنكليزية على الطفل الجزائري، وعلى ما يظهر أنه تربوي، يوحي في الحقيقة بأنه صدر عن بطانة أيديولوجية وسياسية، ولأمر طارئ جدّا لا يمت ولو بصلة واهية بمسألة تحسين مستوى أو تكوين تربوي، بل مجرد حشو وتكديس للغات في مجتمع لا يريد أن يفهم ماذا يريد فعلا.. والوعي الشقي هو الذي لم يتفطن إلى أن المسألة اللغوية في الجزائر وصلت إلى أربع لغات تعاني العجز وعدم التداول المجمع عليه، بالقدر الذي يؤكد الذات ويفصح عن هوية راسخة ناظرة ومنظور إليها.

موضوع اللغة في الجزائر لا يستقل بذاته، بقدر ما يستدعي المتحدث به وصاحب القرار فيه، أي الذات وليس الموضوع. وبتعبير آخر يفيد المعنى نفسه، أن مشكلة اللغة في الجزائر مشكلة لا يراد لها حلّ، لأنها هي عرقوب آخيل السلطة منذ عقود من الزمن، ونحاول أن نشرح على النحو التالي: كانت بداية ثمانينيات القرن الماضي بداية لمسلك خطير على راهن ومستقبل الجزائر، والشروع في صراع وفوضى بأشكالها ومظاهرها كافة، لأنها رافقت وجايلت وتداعت لقرار الجهة الأمنية المتنفِّذة التي أقدمت على تعيين رئيس جزائري لا يحسن، لا العربية ولا الفرنسية، ولا يستطيع مواجهة مشاكل وأوضاع البلد بخطاب مقنع ومجمع عليه. وعليه، وبداية من هذا التاريخ بدأ مسار خطير على الجزائر والجزائريين، الذين شقوا لأنفسهم مسيرة ضياع الهوية، كان من أبرزها الحرب الأهلية بين السياسة والدين، وتسلل «البربرية» إلى الدستور، عبر التفاف فض وفاضح على إرادة الشعب. المظهر الآخر لصلة اللغة بالسياسة في شكلها المرعب والرهيب هو احتفاظ الجهة المتنفِّذة في الجزائر بجثة رئيسا للبلد، لا يتكلم إلا بالإشارة والإيماءة والصمت والتنهيد، عطّلَ آليات الدولة وأجهزتها، فقد كان عدم القدرة على التعبير والكلام هي التي أفضت إلى تَوَرّم سلطة خارج الدستور، كادت أن تستمر لولا قوة موازية هي الحراك العظيم، الذي عبرت عنه أغلبية الشعب حقيقة، وليس مجازا. فقد كان الحراك ضد العَطَالة والخَرس، كما كان أيضا قوة في التعبير وحرية في الكلام والتفكير، لا تبحث لا عن العنف ولا عن الثورة ولا عن السلاح. قوة هادئة وسلسة وعاقلة.. تدرك الحقائق بمعاني الكلمات وليس بقوة السلطة وبطشها. الحقيقة، مقاربة كتابة تاريخ الجزائر المستقلة عبر مسار اللغة أو اللغات فيها، قائمة وموجودة فعلا، ويمكن لمن يلتمسها في بحث أو دراسة، أن يصل إلى معنى آخر من معاني استقلال الجزائر الذي يبقى ناقصا ومصادرا.
وبالعودة إلى قرار تعليم اللغة الإنكليزية لأطفال الجزائر بداية من الموسم المقبل، لا نجد مبررا لذلك، إلا في أوهام بعض من اعتراهم الوعي الشقي بالمسألة اللغوية في الجزائر المستقلة. ونحاول أن نشرح على النحو التالي: قرار تعليم اللغة الإنكليزية لا يحمل في طياته أي إمكانية للتنفيذ، فقد جرى التعامل مع القرار وكأنه تحقق فورا بنتائجه، ودخلت الجزائر حالا مصاف الدول المتقدمة.. وهذه الحالة هي التي نطلق عليها في هذا المقال بالوعي الشقي، حالة توهم صاحبها بأن ما صدر تحقق وأن ما قِيل أُنجز.. نوع من تسويق وبيع السراب والأوهام، لأن واقع حال منظومة التربية في الجزائر يحكمها الفشل الدائم والإخفاق المزمن بسبب الهيكل السياسي والسلطوي، الذي يتربص بها وبكل القطاعات الأخرى. فالجزائر بلد يصرف أموالا طائلة على تخلّفه ويعاند ويصر على تَخَلّفه. الوعي الشقي الذي يحكم البعض منّا هو الذي يُصْرفنا عن الوقوف على الموضوع بأبعاده وجوانبه واحتمالاته كافة.. واحتمالات تعليم اللغة الإنكليزية لأطفال الجزائر لا يُنْظر إليه في المنبع أي في البداية، بل في المصب أي عندَ تخرج الطلبة والأستاذة والمعلمين من المؤسسات التعليمية التربوية والجامعية، بشهادات لا تحمل أية لغة أجنبية. وما يظهر من تَمَكّن بعض الجزائريين من إتقان وإبداع بهذه اللغات، يعزى إلى تكوين عصامي، حرّ وخارج المؤَسَّسة التعليمية أصلا، يكتشف فيها الطالب بأنها كبّلته عن إمكانية تفتح مداركه وقَتَلت فيه مواهبه وعطّلت فيه لسانه.. ومن هنا، فإن مصير اللغة الإنكليزية ينظر إليه ليس لحظة قرار الرئيس، بل في مصبه عندما يتخرج الطالب(ة) والمعلم(ة) والأستاذ(ة) ويجد نفسه خاوي الوفاض. كان من الجدير بالجزائر أن توفر لنفسها اللغة المعيارية والتداولية، أي اللغة العربية كأفضل قاسم مشترك بين السلطة والشعب، بين النظام والفرد والمجتمع، بين الدولة والمواطن من أجل تحقيق شرط الشرعية الداخلية أو الوطنية، ومن ثم استحقاق المنزلة الدولية أو الشرعية الدولية التي تقتضيها هيئة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي في آخر هياكله ومؤسساته.. فعلى الصعيد الأممي تكتمل الهيكلة الحقيقية للجزائر بتداول لغة رسمية ووطنية ودولية في آن معا، ونعني بذلك اللغة العربية المعتمدة من قبل الهيئة نفسها. وعندما يؤخذ موضوع اللغة بأبعاده ومستوياته وجوانبه الداخلية والخارجية كافة يمكن أن نضعه في معناه الصحيح ويمكن تناوله في مباحثه وفصوله الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية، بالقدر الذي لا يضيع منّا حق التلميذ والطالب والأستاذ والموظف في القطاع العام والخاص.. لأن المسألة ليس مسألة ميكانيكية، أو تقنية، أو نزوة شخص، بل تتعلق بلغة وفكر ولسان وأسلوب تنمية شاملة وعالمية. وهذا ما يجب أن توفره اللغة العربية في الجزائر، قبل أن نلج، أو نقترح أية لغة أو لغات أخرى، لأن الماضي القريب يطاردنا ويديننا لأنها استهلكنا اللغة بتَكَلّف واصطنَعْنا وسائل تواصل غريبة عن ما ينبغي أن تكون عليه الهوية الجزائرية، أي القاعدة الأساسية للإنسان الجزائري في دولته الشرعية، وتكون القاعدة المكينة والمتينة لمزيد من البناء والتشييد والتعمير، وتكون اللغات إحداها، خاصة اللغة الإنكليزية التي سوف لن تكون مزاحمة للغة المرجعية والتداولية والرسمية والشرعية، بل تَخَصّص وتَعَمّق في المصطلح الأجنبي وإمكانية استخدامه لفائدة اللغة العربية. ما يغيب عن الوعي الشقي أن تعلم اللغات الأجنبية يأخذ شرعيته ومكانته ومعقوليته، عندما يوفر عمقا وخيالا ومجالا سيميائيا للغة المجتمع والدولة.

القدس العربي 



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات