«خض ورج» أوروبا
قد لا تكون أوكرانيا وحدها ضحية العملية العسكرية الروسية، بل ربما تكون أوروبا كلها هي الخاسر الأقرب، فقد سحبت واشنطن دول الاتحاد الأوروبي وراءها إلى حرب مجنونة، جعلت هدفها إضعاف روسيا وهزيمتها وتدميرها وتفكيكها إن أمكن.
وفرض الطرفان عقوبات غير مسبوقة في التاريخ ضد موسكو، فوق الدفع إلى الميدان الأوكراني بتدفقات سلاح متطور، وبمعونات جاوزت المئة والعشرين مليار دولار إلى اليوم، ومن دون أن يتحقق هدف دحر القوات الروسية ولا تركيع الاقتصاد الروسي، الذي يتعافى من سلاسل العقوبات الغربية على نحو مدهش، ثم يوجه الضربات المضادة لاقتصاد الغرب والاقتصاد الأوروبي بالذات، ويباشر عملية «خض ورج» لأوروبا، بهدف تدفيعها ثمن الجري وراء الخطط الأمريكية، ودفع الاتحاد الأوروبي إلى التشقق، وجرّ حكوماته إلى التساقط تباعا.
في الميدان العسكري، وعلى الخرائط قبل غيرها، تبدو النتائج إلى اليوم محسومة، فقد سيطرت روسيا على نحو ثلث أراضي أوكرانيا، رغم إفراغ الغرب الأمريكي والأوروبي لمخزونات أسلحته في أوكرانيا، وفي حرب ذات طابع عالمي بكل معنى الكلمة، تواجه فيها روسيا وحدها تحالفا من أكثر من ثلاثين دولة في حلف شمال الأطلنطي «الناتو»، ومن دول أخرى داخلة في نطاق معنى «الغرب السياسي»، على الرغم من وجودها شرقا على الخرائط، من نوع اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا وغيرها، ورغم كل هذا الحشد الهائل، لم تتزحزح القوات الروسية شبرا واحدا إلى الوراء، باستثناء خروجها المبكر من حصار العاصمة كييف، وإعادة توجيه مسار عملياتها إلى قوس الشرق والجنوب الأوكراني، والتمهل اللافت في زحفها البري، وعدم زيادة عديدها المتواضع قياسا إلى المهمة، فقد ظل عدد القوات الروسية عند حدود المئة والخمسين ألف جندي، مع وجود دعم إضافي من نحو خمسين ألف متطوع من الحلفاء الأوكران، ولم يقفز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى إعلانها حربا عسكرية شاملة، ولا إلى إعلان الطوارئ، ولا إلى تعبئة عامة، قد يلجأ إليها مع دخول فصل الشتاء، ويدفع بنحو خمسمئة ألف جندي روسي في الميدان، إن احتاج إلى اجتياح كامل لأوكرانيا، التي تملك قوات يفوق عديدها السبعمئة ألف مقاتل، حاول الغرب اختبارهم في الأسابيع الأخيرة، التي توقف فيها الزحف البري الروسي تقريبا، بأوامر مباشرة معلنة من بوتين، وحاول الغرب استثمار الفرصة، وتجريب قيادة هجوم أوكراني مضاد إلى خيرسون عبر مقاطعة ميكولاييف المجاورة، ومن دون أن يسفر الهجوم المضاد المدجج بأسلحة فائقة التطور عن شيء ملموس، اللهم إلا في مزيد من تدمير قوات النخبة الأوكرانية، ومضاعفة استغاثات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لأمريكا والغرب، بمواصلة الدعم بمئات مليارات الدولارات، التي تواصل واشنطن الاستجابة لها، بينما يبدي الأقربون الأوروبيون عجزا ظاهرا عن مواصلة الأشواط المرهقة إلى النهاية، ويركزون اهتمامهم على مواجهة كوارث الاقتصاد وعجز الطاقة. وبينما تبدو أمريكا مستفيدة من حاجة أوكرانيا ومحنة الطاقة الأوروبية، وتكسب تشغيلا كاملا لمصانع سلاحها على مدى ثلاث سنوات مقبلة، بعد نفاد المخزون، وتعقد صفقات تسليح هائلة مع أوروبا المنهكة، فوق تزويد أوروبا بشحنات الغاز الطبيعي المسال تعويضا عن تراجع إمدادات الطاقة الروسية، وتكسب في شحنة المركب الواحد مئة مليون دولار، فيما لا تبدو روسيا في المقابل في حالة قلق على صادراتها من الطاقة، على الرغم من وصول التبجح الغربي إلى قرار وضع سقف لأسعار البترول والغاز الروسي، وتسعير برميل البترول الروسي بنحو ستين دولارا، وهو ما لا يؤثر في روسيا كثيرا، بافتراض إمكانية تطبيقه، فقد فتحت روسيا أسواقا بديلة جديدة باتجاه الصين والهند ودول عربية ولاتينية وغيرها، وتبيع بترولها وغازها بأسعار تفضيلية مخفضة، وهو ما زاد من تراكمات الحصيلة المالية الفلكية، فروسيا تملك وحدها 30% من المعادن وموارد الطاقة العالمية، وحسب إحصاء أوروبي، فقد حققت الخزانة الروسية 158 مليار دولار مضافة في الشهور الستة الأولى للحرب، واشترت منها الصين وحدها بما قيمته 35 مليار دولار، بينما تدنى المدفوع من المانيا إلى 19 مليار دولار بعملة الروبل، وهو ما يعني أن بوسع روسيا الاستغناء عن عوائد تصدير الطاقة لأوروبا، خصوصا بعد مد خطوط أنابيب جديدة مع الصين، وعقد صفقات تصدير طويلة الأجل، ومن دون أن يتأثر الاقتصاد الروسي، الذي أبدى تماسكا مذهلا للدوائر الغربية، ونزلت معدلات التضخم فيه إلى نحو 12%، بينما يجتاح التضخم والركود اقتصادات أمريكا وأوروبا، وقد يصل في بريطانيا مثلا إلى ما يزيد على العشرين في المئة، رغم أن بريطانيا لم تكن تستورد الغاز من روسيا، لكن وجود موسكو في قلب معادلة الطاقة العالمية، ونجاحها في التفاهم الوثيق مع السعودية ومنظمة «أوبك»، عبر صيغة «أوبك +»، وقرار «أوبك +» الأخير بخفض إمدادات البترول للأسواق بمئة ألف برميل يوميا، وبما يفشل خطة الغرب الأمريكي والأوروبي في لجم أسعار البترول، فوق تضاعف أسعار الغاز الطبيعي، وقد تصل مع قدوم الشتاء إلى خمسة آلاف دولار مقابل كل ألف متر مكعب من الغاز، وهو ما قد يعني أن محاولات أوروبا لتعويض نقص واردات الطاقة الروسية، وتنويع مصادر البترول والغاز، من النرويج وأمريكا وقطر والجزائر ونيجيريا وشرق المتوسط، وحتى من موزمبيق، وكلها محاولات محمومة دائبة مع خطط ترشيد استخدام الطاقة، لكنها لن تؤدي إلا إلى مضاعفة العبء المالي على الموازنات الأوروبية، وزيادة تكاليف الطاقة بأوروبا إلى تريليوني دولار سنويا حسب تقديرات بنك «غولدمان ساكس»، وهذه بعض ضرائب حجب موارد الطاقة الروسية الأرخص والأسلس وصولا عبر خطوط أنابيب متشعبة، بينها «يامال أوروبا» و»فيا أوكرانيا» «وساوث ستريم» وخط إضافي عبر البحر الأسود وتركيا، فوق الخط الشهير المعروف باسم «نورد ستريم ـ 1»، الذي يذهب عبر بحر البلطيق إلى ألمانيا، ومنها إلى غيرها، والذي أوقفت موسكو الضخ عبره إلى حين، وصفته بالأجل غير المسمى، وبدعوى الحاجة إلى صيانة توربيناته، وفي خطوة ذات نفس عقابي لا يخفى، تهدف منها موسكو إلى «خض ورج» الوضع الأوروبي كله، فعلى الرغم من تحوطات عدد من حكومات أوروبا وأحاديثها عن ملء الخزانات بنسب كبيرة، وتنامي الاستعدادات لمواجهة شتاء مقبل صعب، وصفته رئيسة وزراء السويد بالشتاء «الحربي»، إلا أن الاحتياج الأوروبي للغاز أبعد من احتياطات تدفئة المنازل في الحد الأدنى، و37% من مصانع ألمانيا تعتمد على الغاز الروسي، وهو ما دفع ديمتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي إلى السخرية من تصريحات المستشار الألماني، ووصف أولاف شولتس بأنه «العم شولتس»، الذي يفرط في الشكوى من استخدام موسكو لموارد الطاقة كسلاح سياسي، ويتناسى تورط برلين في العقوبات على روسيا، وتزويد أوكرانيا بالسلاح الألماني المتقدم، وهو ما يعني أن بوتين لاعب الشطرنج المحترف، يلعبها بذكاء وثبات أعصاب، ويبقي ألمانيا ومعها أوروبا معلقة على صليب الغاز، ويواصل دفع حكومات أوروبا إلى الحائط، ويشعل غضب الشعوب الأوروبية من حكوماتها المناوئة للكرملين، وقد توالى سقوط حكومات أوروبية في لعبة «دومينو»، فقد ذهبت حكومة بوريس جونسون في بريطانيا المأزومة، وسقطت قبلها حكومة أعداء روسيا في بلغاريا، واستقوت حكومة فيكتورأوربان صديق روسيا في المجر، وسقطت حكومة ماريو دراجي في إيطاليا، ويرجح صعود حكومة إيطالية قومية صديقة لروسيا في انتخابات أواخر سبتمبر/أيلول الجاري، فيما تجتاح المظاهرات عواصم أوروبية، على نحو ما جرى في مظاهرات السبعين ألفا في دولة التشيك، وإضرابات ومظاهرات المتضررين في بريطانيا وفرنسا، وهو ما امتد مؤخرا إلى مظاهرات سخط اجتماعى في مدن ألمانيا من ساكسونيا شرقا إلى كولونيا غربا، وكلها مظاهرات غضب أقرب إلى الإيقاع الروسي، والضيق بالدعم الأوروبي لأوكرانيا، والمطالبة بعودة الغاز الروسي، وفتح خط «نورد ستريم ـ 2»، الذي لم يستخدم أصلا، ورفع العقوبات عن روسيا، التي ارتدت بالخراب والكوارث وتدهور المعايش على شعوب أوروبا، وهو ما تسعى إليه موسكو ضمنا وصراحة، فهي تريد تأديب الحكومات الأوروبية غير الصديقة على يد شعوبها، وتدير لعبة الغاز بحرفية متمكنة، وقد تنهي «الأجل غير المسمى» في الوقت الذي تفضله، وقد تمده إلى صقيع الشتاء المهلك، وإلى «حرب شتاء» في الميدان الأوكراني، تفوز فيها روسيا كما تأمل بالضربة القاضية، وكما هي العادة الحربية التاريخية، خصوصا مع وضعها الاقتصادي المستريح نسبيا، ومع توثق شراكة «بلا حدود» عسكرية واقتصادية، تجمعها مع الصين الصاعدة إلى عرش العالم الجديد.
القدس العربي