أين تقف القاهرة اليوم من الأزمة الليبية؟
نسف موقف وزير الخارجية المصري، سامح شكري، القول بأن تقاربا وقع بين أنقرة والقاهرة بخصوص النزاع الحكومي الليبي والذي تطور إلى مواجهات مسلحة أودت بحياة ما يزيد على الثلاثين وجرح نحو مائة وخمسين. فقد اتجهت توقعات العديد من المراقبين إلى وقوع تنسيق بين مصر وتركيا بخصوص احتواء النزاع الحكومي بين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد ادبيبة والحكومة الليبية التي كلفها مجلس النواب وعهد إلى فتحي باشاغا بقيادتها.
موقف سامح شكري الذي لم يكن اجتهادا منه ولا ردة فعل سريعة على استلام وزير الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية، نجلاء المنقوش، رئاسة الدورة الجديدة لوزراء خارجية العرب بالجامعة العربية، يؤكد على موقف القاهرة من الأزمة الليبية. وليس من المستبعد أن يكون ما وقع من رئيس الدبلوماسية المصرية تعبيرا عن ردة فعل تجاه المنتظم العربي الذي اختار تسليم الرئاسة لوزارة الخارجية بحكومة الوحدة الوطنية ولم يجارِ القاهرة في موقفها.
يمكن القول أيضا إن انفراد مصر بموقفها من حكومة الوحدة الوطنية واعتبارها غير شرعية و"منتهية الولاية" جاء بعد مناورات لجمع بعض الدول الأعضاء حوله، وإن اتجاه شكري إلى الضغط على المنقوش للتخلي عن رئاسة الدورة الجديدة كان آخر أوراق الدبلوماسية المصرية.
انسحاب شكري من الاجتماع بعد تسلم المنقوش رئاسة الدورة الجديدة لوزراء أعضاء الجامعة العربية، وبشكل منفرد، وصف بالغباء، غير أنه لا يتصور أن يكون الموقف المصري ردة فعل غير مدروسة، وإنما هو تأكيد على سياق مطرد تجاه النزاع الحكومي الليبي، بمعنى أن ما وقع من الدبلوماسية المصرية يعكس دور القاهرة تجاه النزاع ومن حكومة الوحدة الوطنية، بل ومن الأزمة الليبية برمتها.
القاهرة ضالعة في الصراع الليبي منذ العام 2014م، وحضورها تعدى الموقف والرؤية إلى الانخراط المباشر بدعم أحد طرفي النزاع، وهو مجلس النواب وقيادة الجيش التابعة له، سياسيا وعسكريا، وهناك ما يدلل على رغبة مصرية في تكرار ما وقع في أرض الكنانة العام 2013م والذي انتهى إلى عودة حكم العسكر والحكم الفردي ولعب دور شبيه بالإلهام والتوجيه المصري لليبيين في المرحلة الناصرية، مع التأكيد على اختلاف الظروف المحلية والإقليمية والدولية، واختلاف المقاربات، والفروق بين القيادتين في 23 يونيو و3 يوليو.
مصر كانت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي وازنة ضمن المنتظم العربي بل كانت تمثل قيادته غير المتوجة، وبرغم خلافها مع بعض العواصم العربية آنذاك، إلا أنها كان قادرة على توجيه الموقف العربي عبر الجامعة العربية بل وصناعته، وهي اليوم على هامش الفعل وتأثيرها عربيا رديف وداعم وليس صانعا أو موجها للأحداث والمواقف على الساحة، ومؤشر هذا التوصيف هو انسحابها منفردة من اجتماع وزراء الخارجية العرب في دورته الـ 152.
الموقف المصري من النزاع الحكومي الليبي والذي عبر عن نفسه بما وقع في جامعة الدول العربية يشير إلى ارتباك في المقاربة المصرية لما يجري إقليميا ودوليا، والملف الليبي تحديدا. فمن الواضح أن القاهرة اتجهت إلى المغالبة وفرض رؤيتها في استنساخ التجربة المصرية التي جاءت بالرئيس السيسي للحكم، وأخذت رؤيتها زخما بسبب الدعم الذي تلقته من أطراف عربيا ودولية، وعندما انفك الحلف الإقليمي الدولي بعد فشل خطة السيطرة على مفاصل الدولة بالهجوم على العاصمة العام 2019م، اتجهت القاهرة إلى مراجعة رؤيتها، لكنها لم تخلص إلى مقاربة متزنة تأخذ في الاعتبار طبيعة الصراع الليبي وأوزان الفاعلين فيه وتغير أوزان الأطراف الدولية والإقليمية في الصراع ذاته، وبالتحديد الدور التركي، الذي ترفضه القاهرة بشدة لكنها لم تنجح في تحييده أو تطويعه.
الانحياز ونهج المغالبة لا يزال فاعلا في رسم ملامح الموقف والسياسة المصرية تجاه الصراع الليبي ولا تسعف الدبلوماسية المصرية جهود الوساطة والتقريب بين أطراف النزاع الليبي في جعلها طرفا محايدا، فلدى القاهرة فرصة لإنهاء الصراع من خلال التأثير على حلفائها في طبرق والرجمة بدفعهم إلى التوافق بالتخلي عن الشروط المتعلقة بالسماح لمزدوجي الجنسية والعسكريين بالترشح للانتخابات الرئاسية، والتي هي محور النزاع اليوم ومرتكزه، وخلاف المعلوم والمقبول في التجربة الديمقراطية، لكنها لم تفعل، لأنها إن فعلت ستخسر حليفا مهما هو خليفة حفتر، ولأنها لم تراجع رؤيتها ومقاربتها الأساسية لم تتجه إلى المراهنة على بديل، أو التحول إلى سياسة عدم الانحياز الحقيقي، وظل موقفها ثابتا ووقع التغيير في الأدوات وليس التوجه.
نخلص إلى القول بأن الحجج القانونية في تبرير موقف القاهرة من النزاع الحكومي لا تجدي، فالتوافق الذي يجعل من قرارات مجلس النواب الليبي شرعية لم يقع، ذلك أن شرعية قوانين وقرارات مجلس النواب، بناء على اتفاق الصخيرات، ترتبط بموافقة شريكه السياسي وهو المجلس الأعلى للدولة، وذلك لم يقع بخصوص حكومة باشاغا.
من ناحية أخرى، فقد أيدت القاهرة الهجوم الذي شنه حفتر على العاصمة طرابلس العام 2019م وأيدت إسقاط حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا، في توجه ناسف للاتفاقات المحلية والدولية التي منحت الشرعية للأجسام آنذاك وفي مقدمتها حكومة الوفاق الوطني.
عربي 21