معارك غربية حول الحريات الجنسية
يشير إغلاق أعداد كبيرة من حانات التعري في المملكة المتحدة، إلى تغير في النظرة الاجتماعية لهذه الأماكن، ما ساهم في تغير التشريعات التي تحكمها. هذه الحانات التي كانت تصنف كمجرد نوادٍ أو أماكن للشرب، باتت تعرّف مؤخراً كأماكن للترفيه الجنسي. تعريف سوف يسحب عنها البراءة، التي يكون منح الترخيص بموجبها تلقائياً، ويجعل القبول بها خاضعا لموافقة المجالس المحلية.
التصنيف الجديد ربما لم يكن ليخلق اختلافاً، لو كان تم قبل بضعة عقود، لكن الزمن على ما يبدو اختلف ولم يعد المشرعون يسعون للحصول على الإباحية المطلقة وتحقيق هدف جعل الترفيه الجنسي في متناول اليد، كما كان يحلم به جيل ما بعد الحروب العالمية.
المجتمعات الأوروبية أصبحت أكثر وعيا بمخاطر غرق المجتمعات في الإباحية، تحت دعاوى التحرر والحريات، ويمكننا أن نلاحظ أن ما يحدث في بريطانيا يتكرر، بشكل أو بآخر، في مدن أوروبية عديدة، فلم تعد «المنطقة الحمراء» مريحة لسكان أمستردام، الذين باتوا يرون فيها خطراً على عائلاتهم وأطفالهم، وكذلك الحال بالنسبة لباقي المدن، التي كانت تفرد مساحات مخصصة للبغاء أو لعروض الأجساد. وفق تقارير رسمية انخفض عدد نوادي وحانات التعري في بريطانيا إلى ما يقارب النصف. بالتأكيد، فإن هذا أمر لا يسعد الجميع، وسيكون في مقدمة الغاضبين رجال الأعمال، الذين اختاروا الاستثمار في هذه الأماكن، والزبائن الذين اعتادوا عليها، وأيضاً العاملات المتعريات اللواتي يدافعن عن عملهن ويعتبرن أنه مجرد مهنة.
سياسياً لم تكن المعركة سهلة، فكان السياسيون المحليون، ما بين التعهد بإغلاق هذه المحلات، وهو ما كان يرفع شعبيتهم عند عدد كبير من المعارضين لوجودها، وما بين الدخول في مواجهة مع مستثمرين وداعمين، إضافة إلى مواجهة أخرى مع «اتحاد عاملي الجنس»، الذي يعمل كنقابة تملك من القوة ما يجعلها تسعى لأن تمتلك الحق في مراجعة ما يتم إقراره في المجالس البلدية. يعود سؤال فلسفي قديم ليطرح نفسه هنا وهو: هل يعتبر الترفيه الجنسي نوعاً من استغلال المرأة، وماذا إذا كان ذلك يتم برغبة العاملات، هل يمكن في هذه الحالة احترام قرارهن على اعتبار أنهن حرائر في ما يصنعن بأجسادهن؟ هذا السؤال معقد، فما بين المدافعين عن هذا العمل ومن يعتبرون أن فيه تسليعاً للمرأة وتحويلها لمجرد أداة جنسية تدور رحى معركة شرسة، خاصة أن الخيط الفاصل ما بين الرغبة والإجبار شفاف جداً. هكذا وبينما حسم الأمر في دول مثل آيسلندا، التي منعت مثل هذه الحانات وانتصرت لوجهة النظر، التي تعتبر أنها تساهم في ترسيخ احتقار المرأة، ولا يمكنها أن تخدم بأي شكل تحريرها، أو احترام خياراتها، فإن دولاً أخرى ما تزال في مرحلة النقاش المجتمعي، الذي لم يزل يراوح مكانه، ما بين الخشية من التراجع عما تم تحقيقه من حريات عبر العقود، والخوف من إفساد المجتمع الذي يعاني بالفعل من تفكك وعزوف عن تكوين أسر مستقرة. الطريف في الأمر أن الجمعيات النسوية لا ترى في ممارسة التعري انتقاصاً من صورة المرأة، بل ترى، على العكس من ذلك، أن منع المرأة من اختيار التكسب بعرض جسدها هو أمر فيه تمييز ضدها، وحرمان لها من مصدر دخلها أو عملها الذي قد لا تكون مجيدة لغيره.
على صعيد آخر تشغل قضية أخرى المهتمين بما يعرف بـ»حرية الاختيارات الجنسية» وهو مفهوم يمكن أن يشمل الحرية في اختيار الشريك من النوع ذاته، أو النوع المغاير، كما يمكنه أن يشمل ما يعرف بالعبور بين الأجناس وقبول تحول الذكور إلى إناث أو العكس. في الأعوام الأخيرة ترسخت مفاهيم «حرية الاختيار الجنسي» بشكل كبير، حتى اعتبر البعض أن إجبار المواليد الذكور على متابعة حياتهم كذكور هو أمر مناقض لحقوق الإنسان، وكذلك الأمر بالنسبة للإناث، حيث يجب أن يكون اختيار النوع، تماماً مثل اختيار العقيدة الدينية، أو التوجه السياسي، خاضعاً لرغبة المعني وحده. وفق هذا المنطق يجب أن تكون المناهج الدراسية وألعاب الأطفال محايدة، من دون انتماء أو تخصيص لجنس معين، كما يجب أن يتاح للطفل، ذكراً كان أو أنثى، أن يجرب حياة الطرف الآخر، كأن يجرب الطفل ارتداء الأساور أو استخدام طلاء الأظافر، في حين تجرب الطفلة ألعاب القوى، أو غيرها مما كان مخصصاً في السابق للأولاد. يبدو هذا غريباً لكنه شائع في دول مثل فنلندا مثلاً. حددت الجمعية الدولية للمهنيين المهتمين بصحة عابري الجنس، أو ما يعرفون بـ»ترانس جندر»، مقرها الولايات المتحدة، في تقرير نشر منتصف الشهر الماضي عمر الرابعة عشرة كعمر مناسب لبداية إجراء معالجات تغيير النوع. أثار التقرير جدلًا كبيراً، ووصفت الجمعية من قبل البعض بأنها تجمع للمهنيين، لكن من الذين يحملون رؤى متطابقة ويدعمون ما بات يعرف بضرورة «التأكيد النوعي»، بمعنى الطلب من المراهق أن يختار هو بمحض إرادته الجنس الذي يشعر بأنه أقرب إليه.
يرى معارضو هذا التوجه أنه يحوي مشكلات كبيرة، أولها، أنه لم يفرق بين تحويل النوع كعلاج لحالات نادرة يكون فيها الشخص مصاباً باختلالات هرمونية واضحة، ومحاولة تشجيع الأطفال على تغيير جنسهم بشكل عبثي تحت مسوغ إتاحة الحرية لهم. من المعروف أنه لأسباب نفسية أو عاطفية قد تراود الطفل أفكار حول تحوله لجنس آخر، كما يحدث في حالة الأولاد المتأثرين بأمهاتهم أو أخواتهم، أو الفتيات اللواتي يرون أنهن أقرب لآبائهم، لكن هل يمكن أن يعني ذلك أن نبدأ مباشرة في إجراء تغييرات فيزيولوجية في مثل هذه الأعمار الصغيرة؟ من المتوقع أن يتعرض الأهل الذين يرفضون تحول أولادهم لفتيات لحملات واسعة من المضايقات ولاتهامات بأنهم معادون للنساء، أو أنهم مجرد منتمين لحقبة تمييز الذكور، لكن مثل هذه الحملات تتجاهل الإجابة عن سؤال مهم: ماذا لو رأى هذا الطفل بعد نضوجه أن ما فعله كان خطأ، كيف يمكنه حينها إصلاح ذلك؟
يذكّر هذا بقانون فرنسي تم تمريره بداية العام الماضي ويعتبر أن ما سماها «سن الرشد الجنسي» تبدأ بعمر الثالثة عشرة، وهكذا لا تكون هناك غضاضة إذا ما مارس طفل بهذا العمر الجنس. وفق هذا المنطق فإن الطفل يمكن ان يكون قادراً على ممارسة الجنس من دون مشكلة، كما يمكنه ان يبدأ تغيير نوعه أو ميوله الجنسية، لكن المفارقة هي أن هذا المنطق الليبرالي نفسه يرى في الإقدام على الزواج قبل السن القانونية أمراً غير مقبول ويوجب المساءلة. لا يمكن التقليل من شأن الرافضين لمنطق الحريات الجنسية السائد في الدول الغربية، فتقدم اليمين وصيحة جورجيا ميلوني: «لا لأيديولوجيا الجندر»، التي منحتها الكثير من الأنصار، وكذلك اقتناع الكثيرين بالخطاب الأخلاقي لفلاديمير بوتين، الذي يركز فيه على التذكير بقيم العائلة والتقاليد، كل ذلك يخبر أن هناك صعوداً لتيار مناوئ متنامٍ. مع وجود هذا التيار المناوئ لن يكون من السهل تمرير مشروعات من قبيل إعادة تعريف الأسرة، أو ترسيخ القبول بأفكار شاذة ومنافية للفطرة مثل العلاقات الثلاثية، أو جنس الأطفال أو غير هذا مما تعمل جهات على الترويج له.
القدس العربي