أوكرانيا: حين يواجه ما قبل الحداثة ما بعدها
ذكر كاتب بلغاري اسمه يفغيني داينوف في مقالة له منذ فترة، أنّ روسيا «ليست ولم تكن أبدا دولة قومية حديثة، حتى لو كانت مشوهة. إنها نوع مختلف تماما من الوحوش».
وما زالت أقوال كهذه تؤذي مشاعر بعضنا – نحن اليساريين القدامى- حتى الآن. في حياتنا الأولى كنّا نرى في روسيا صديقا قريبا، وطليعة ثورية منذ عام 1917، عام الثورة البلشفية ووعد بلفور. تعايشت تلك المشاعر ـ الأيديولوجيا- مع أخرى تفاعلت بحنين خاص؛ يشبه الحنين إلى القرية؛ مع بوشكين وتولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف، ومع ريمسكي- كورساكوف وتشايكوفسكي… وحين دَرَج وصف الاتحاد السوفييتي الساخر المهين: «فولتا العليا بصواريخ نووية» في الغرب، شعرنا أيضا بالإهانة وبالعنصرية الغربية مع الاتحاد السوفييتي وفولتا العليا معا.
قال كاتب المقال نفسه معلّقا على الحرب الروسية على أوكرانيا: «كان الأمر كذلك منذ ما يقرب من 600 عام وليس من المحتمل تغييره. وحتى تعلن روسيا عن رغبتها في أن تصبح مثل أي بلد آخر، لا يمكن احتواؤها إلا بالقوة المتفوقة. ذلك هو التقييد الخارجي الوحيد الذي يعترف به الوحش، في الوقت الحالي، كإجراء مشروع». يرى داينوف أيضا أن الأيديولوجيا السائدة الآن في روسيا إمبراطورية ليس لها حدود ثابتة، وهي معقل المسيحية التي خانها الآخرون. هو يحكم عليها بالخلود في قفص «دولة ما قبل – الحداثة»، ويقضي بأنّها غير قادرة حتى على اجتياز الحاجز نحو» صلح ويستفاليا- القرن السابع عشر» الذي أسّس للدولة الحديثة في صورتها الأولى بعد حرب الثلاثين عاما» وحتما قبل «الدولة- الأمة» ابنة القرن التاسع عشر، التي تميّز نموذج الحداثة وتطوّراته. لا يأخذ الكاتب المذكور بما ورد في دستور عام 1993 من أن روسيا «دولة ديمقراطية فيدرالية قائمة على سيادة القانون، وذات نظام حكم جمهوري. وتنفصل فيها السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية». ما يجعلها؛ لو تحقق؛ موغلة في اتّجاه الحداثة، ومفتوحة أيضا على عالم دولة ما بعد الحداثة، بل النظام الدولي لما بعد الحداثة أيضا؛ معتمدا في حكمه على ما حدث حتى الآن، في السياسة الداخلية من قمع وتقييد للحريات، وفي السياسة الخارجية من عدوانية واضحة. يظهر ذلك في الفصل العميق بين هاتين السياستين، كما حدث منذ صلح ويستفاليا المذكور، وبقي شعارا متكرّرا حتى الآن عند» التدخّل في الشؤون الداخلية» على ألسنة الحكام في روسيا وفي سوريا، أو في معظم دول «الأمتين العربية والإسلامية». هنا يبدو مفهوما احتجاجُ بوتين على تشهير الغرب به ومطالبته بإطلاق سراح أليكسي نافالني، وكذلك استغراب بشار الأسد وزوجته لمطالبة العالم الخارجي بالإفراج عن شعبه ومواطنيه. كان النظام الدولي القديم قائما على الفوضى، مرتبطا بنسقٍ ديني ما، أو إمبراطوريا ميّالا بشكلٍ طاغٍ إلى التوسّع كلّما حدثته نفسه عن قوته المتفوّقة، ثمّ أصبح معتمدا على الدبلوماسية مع الفصل ما بين «الداخل» و»الخارج»، وغدت التجارة سبب الحروب الفعلي، وكان هذا في الطور الأول من الحداثة. بعد ذلك سادت القومية والدول – الأمم في الطور الثاني من الحداثة الذي ابتدأ في القرن التاسع عشر، واستمرّ حتى القرن العشرين، حين اصطدمت القوميات المتأزّمة بسبب قصور إمبراطورياتها، في حربين كونيّتين خلال ربع قرن، عموما، ودخلت عوامل أكثر حداثة (ما بعد – الحداثة، إن جاز القول)، كالشفافية والهشاشة المتبادلة في القوة العسكرية، ودخل تأثير الميديا بدور مهم، وأخذت السياسات شكلا أقصر في برامجها الزمنية. ولا ينطبق نمط ما بعد الحداثة الأخير هذا في تقدير بعض الباحثين، إلّا على دول الاتحاد الأوروبي، وكذلك على كندا واليابان. في حين تشكّل الولايات المتحدة نمطا فريدا بذاتها، يتفوق على الآخرين أحيانا ويقصّر عنهم في أحيان أخرى. تكون الدولة ذاتها في مرحلة ما قبل الحداثة؛ عندما تكون تسلّطية وضعيفة في آليات التحكّم، عسكرية وإقطاعية وزراعية، وأيضا إمبراطورية كلّما أُتيح لها ذلك. ثم تدخل التجارة على الزراعة، والدبلوماسية إلى جانب العسكرية، وتتحمّل مسؤولية التعليم والصحة والرفاه العام والصناعة، إضافة إلى المسائل العسكرية والأمنية. وهذا لا يحدث إلّا في طور الحداثة الأوّل، في حين يغلب على الدولة بيروقراطيتها ومركزيّتها في الطور الثاني، ويمكنها أن تكون آنذاك – إضافة إلى وظائفها العسكرية: احتكار العنف، أيديولوجية أو تسلّطية أو… ديمقراطية. في هذا الطور أيضا يدخل التصنيع والإنتاج الضخم إلى جانب التجارة. تتوزّع السلطة بين الداخلي والدولي في النمط الأحدث – ما بعد الحداثة، وتكون ديمقراطية ودينامية تتأثّر بسهولة بالميديا ومزاج الجمهور؛ كما تتناقص النشاطات الصناعية أو تتركّز؛ ويغدو اتّخاذ القرار أكثر تعقيدا. يصبح الاقتصاد بين الصناعي وما بعد الصناعي، وتدخل المعلوماتية متسلّلة إلى مفاتيح الهيمنة بالتدريج.. تغدو الجيوش صغيرة الحجم، تستبدل العامل البشري بالتطور في تكنولوجيا الأسلحة، من دون أن تتحوّل هشاشتها إلى قوة كاسحة.
قد ينفع مثل هذا التفصيل الموجز في فهم حرب بوتين الأوكرانية، من بعض الزوايا على الأقل. واضح أن هناك تداخلا بين السمات «الإمبراطورية» من عهود ما قبل الحداثة؛ وسمات التخصّص المتفرّع في الحكومة مع احتكارها الأوضح للعنف من طور الحداثة الأوّل؛ والبيروقراطية والمركزية – رغم الشكل «الفيدرالي»- مع خليط غير متناسب من التسلّط والديمقراطية، ورَشّة من الأيديولوجيا القومية/ الدينية من الطور الثاني، لإشباع وكفاية ميول الاستبداد لدى الرئيس، الذي استطاع تمرير وصفة من أقصى العالم الثالث لتمديد احتفاظه بالسلطة حتى الموت، أو ما في حكمه.
تصطدم هذه التركيبة بعنف مع تركيبة أوروبا التي تبدو وكأنّها قد سبقت زمانها واستعجلت، ويبدو الأمر هنا وكأنه «صراع حضارات» لا بدّ من صراعها، أو لعلّه صراع الماضي مع المستقبل، في الحاضر. ولو كانت الحرب المعنيّة في زمن سابق – أو زمن متساوٍ- لأتى كلّ شيء منسجما، كالحروب «العامة» السابقة. فاجأ دخول عامل الطاقة أوروبا بعنفٍ على سبيل المثال، وأحرج خطواتها وسياساتها؛ وفاجأت وحشية المعارك والقصف هشاشتها؛ واصطدمت فردانية الميديا الروسية برحابة تلك الأوروبية وبرامجها المعتادة… وأشياء كثيرة أخرى.
وعلى الرغم من سيل العقوبات الطاغي من الغرب، لم تقف روسيا عاجزة وفتحت الباب لأزمة خبز العالم من خلال إغلاقها الطريق على تصدير قمح أوكرانيا، ومن ثمّ لأزمة اقتصادية قد تدخل العالم في طريق وعرة ومجهولة. ربّما سيكون ما حدث وما سيحدث سببا لتغيّرات نوعية على هذا الكوكب، يعود فيها المنخرطون بالحدث مباشرة خطوة أو خطوتين إلى الوراء، لمراجعة الحسابات ومواجهة هذا الوضع الطارئ؛ ولكن الأمر الأكيد هو أن الحرب لن تنتهي إلّا بخسارة واضحة لمن ابتدأ بها، مهما كانت المسارات الدبلوماسية المقبلة، أو التسويات والصفقات والإعلانات.
استطاعت العدوانية الروسية أن تحرّك العسكرية الخامدة منذ الحرب الكونية السابقة، ولم تستطع آليات حلف الناتو؛ وهو من جنس الاتحاد الأوروبي، أقرب إلى ما بعد الحداثة أيضا؛ أن تواجه بالسرعة المناسبة تلك الآليات الروسية المعتادة على نمط الحرب السورية – مثلا- حيث لا يسود نمط ولا نسق ولا نظام.
استطاعت كذلك أن تحرّك مياها راكدة، لتفوح روائح التعصّب والعنصرية في أوكرانيا الضحية كما في روسيا المعتدية؛ وأيضا في أوروبا هنا وهناك، في درجة التحريض على روسيا بشعبها المظلوم بدوره، وبمثقفّيها وفنّانيها من دون تمييز؛ كذلك في بعض مظاهر التمييز بين اللاجئين هنا وهناك.. ليذكر المرء نيتشه، وما كان ثوار ميدان التحرير قد اقتبسوه منه على أحد الجدران: «فليكن ذلك الذي يحارب الوحوش حذرا، حتى لا يتحوّل بدوره إلى وحش».
القدس العربي