متغيرات كبرى في مواجهة صحة البشر
من الضروري أن يعي العاملون في حقل الصحة، ومن ثم المواطنون، بالمتغيرات الكبرى التي ستكون لها تأثيراتها العميقة في حقل الصحة، فكراً وممارسة وتنظيماً.
أولاً، هناك موضوع التأثير السلبي من جراء قبول الفلسفة السياسية والاقتصادية النيوليبرالية العولمية، التي فرضتها دوائر استعمارية على العالم كله، ذلك أن إصرارها على إنهاء دولة الرعاية الاجتماعية، وترك الخدمات الاجتماعية في يد قوى المال والتجارة، واعتبار تلك الخدمات سلعة قابلة وخاضعة لمنطق السوق، ستكون له نتائج كارثية على مدى توفر الخدمات الصحية الجيدة للفقراء والمهمشين، وعلى مدى استعداد المجتمعات لمواجهة الأوبئة والكوارث الطبيعية. ولعل ما أظهره وباء فيروس كورونا من نواقص في استعدادات بعض الدول المتقدمة لمواجهة ذلك الوباء، خير إنذار لما يمكن أن يحمله المستقبل من مشاكل صحية، بسبب اتباع الفلسفة النيوليبرالية. من هنا الأهمية القصوى لتجييش المواطنين والعاملين في حقل الصحة للمطالبة بالعودة إلى دولة الرعاية الاجتماعية، وفي مقدمتها الخدمات الصحية.
ثانياً، الصعود المذهل لظاهرة أدعياء وتجار الطب البديل، بكل أشكاله القديمة البدائية وأنواعه الحديثة غير المحكومة بضوابط وتجارب علمية وصحية مجربة ومدروسة بتمعن عبر سنين طويلة، لقد أصبحت تلك الظاهرة تجارة مربحة لكل طالب للشهرة والثروة والمكانة الاجتماعية والمهنية. وبسبب الاتساع الهائل في وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح انتشار تلك الظاهرة هائلاً وواسعاً، ما يهدد في المستقبل مكانة وقبول الطب العلمي التجريبي، الذي خبرته البشرية، وساهم في اجتثاث عشرات الأمراض وفي شفاء الملايين. موضوع الطب البديل إذن سيحتاج إلى مواجهة أي من ادعاءاته غير الصحيحة، ومواجهة محاولته أن يهمش الطب العلمي.
ثالثاً، هناك موضوع التغيرات التكنولوجية التي ستقود إلى أن توجد مكانة للروبوت وللذكاء الاصطناعي، وتسببهما في بطالة ملايين العاملين في حقل الصحة من جهة، وإلى إمكانية وجود تأثيرات سلبية خطرة في عقول ونفسية وسلوكيات الإنسان من جهة أخرى. إنه موضوع يحتاج إلى درس عميق، سواء بالنسبة إلى مجالات استعمالاته، أو مجالات علاجاته لشتى الأمراض، أو قيامه بالعمليات الدقيقة الجراحية. تلك كانت أمثلة لمواضيع جديدة سيحتاج العاملون في حقل الصحة والمواطنون في المؤسسات المدنية المعنية بالصحة أن يواجهوها، وأن يحاربوا من أجل منع وجود أي تأثيرات صحية سلبية بسبب تبنيها.
إذا أضيف ما يمكن أن تأتي به التغيرات البيئية من كوارث، وما يمكن أن ينتج عن التلاعبات الجينية، وعن جنون انتشار مختبرات أسلحة الجراثيم والفيروسات، وغيرها كثير، أصبح استنتاجنا بأن طبيعة العوامل التي ستؤثر في صحة الإنسان لم تعد مقتصرة على العوامل الكلاسيكية السابقة، وإنما أضيفت إليها عوامل مثل فلسفة المجتمعات وتطورات التواصل الاجتماعي، والانفجارات التكنولوجية الهائلة. ما يتعلق هو أن حضارة العصر التي فقدت الكثير من توازناتها العقلانية والقيمية والأخلاقية والروحية، قد لا تكون مهيأة للتعامل مع تلك العوامل الجديدة المؤثرة في صحة الإنسان الجسدية والعقلية والنفسية بموضوعية وتجرد، بعيداً عن تجاذبات المال والصراعات التجارية والمنافسات العسكرية المدمرة. عند ذاك ستكون الكوارث الصحية كوارث وجودية تهدد وجود الإنسان على هذا الكوكب الأرضي، الذي خلقه الباري برداً وسلاماً، وقلبه الإنسان إلى ما يشبه الجحيم بسبب جنونه وأطماعه.
القدس العربي