كريستوفر ماير: خاب مسعى الحسناوات!
يمكن لكثير من أفراد الجمهور أن يسموا بعض وزراء حكوماتهم بالاسم، أما السفراء فقلّما يتفق لأحدهم أن يكون معروفا داخل بلاده. وإذا عرف فترة ما، فعادة ما يكون ذلك بمناسبة وقوع حدث دبلوماسي أو دولي هام استدعى خروجه إلى الأضواء. كما يحدث، في حالات نادرة، أن يكون السفير معروفا أكثر من الوزير، إما لطول مدة اعتماده، أو لسابق مكانته السياسية في بلاده (ولو أن السفارة يمكن أيضا أن تكون عقابا مؤقتا لمن كان في الوزارة أو في المسؤولية، مثلما حدث لبن علي عندما «نفى» سفيرا في بولندا جزاء إخفاقه، لما كان مديرا للأمن الوطني، في كشف أمر عصابة قفصة التي أرسلها القذافي عام 1980 لاغتيال الوزير الأول الهادي نويرة). فقد كان أناتولي دوبرينين، على سبيل المثال، اسما معروفا في بلاده وفي العالم، لأنه بقي سفيرا للاتحاد السوفييتي في واشنطن طيلة ربع قرن، حيث تعامل مع ستة رؤساء من جون كندي حتى رونالد ريغان. كما كان الهادي المبروك اسما معروفا في تونس لأنه بقي سفيرا في باريس طيلة 13 سنة عين بعدها، عام 1986، وزيرا للخارجية خلفا للباجي قائد السبسي (فكان آخر وزير خارجية في عهد بورقيبة).
ولو سألت الآن أي فرد من الجمهور البريطاني عن سفراء بلاده، فمن شبه الأكيد ألاّ يتبادر إلى ذهنه إلا اسم واحد: كريستوفر ماير. ذلك أن هذا الدبلوماسي المتميز، الذي وافته المنية آخر يوليو، قد كان سفيرا في واشنطن في مرحلة حاسمة، من 1997 إلى 2003، أتاحت له أن يشهد حدثين تاريخيين: هجمات 11 سبتمبر وغزو العراق. وقد تألق اسمه وسطع نجمه بسبب لا-دبلوماسيته، أي صراحته الشديدة، في تحديد الأسباب الحقيقية لتبعية بريطانيا لأمريكا عموما وانحيازها لها في قرار العدوان على العراق خصوصا. وقد تجلت هذه الصراحة سواء في حواراته الإعلامية أم في مذكراته التي نشرت عام 2005 والتي فضح فيها ضآلة شأن توني بلير وهوسه الصبياني بنيل رضا بوش في جميع الأحوال وأيّا كان الأمر، سيّان أن يكون السيد الأمريكي محقا أم مخطئا، ظالما أم مظلوما: المهم أن تظل أمريكا تعتقد أن بريطانيا (وليس ألمانيا أو أي دولة أوروبية منافسة) هي حليفتها الأولى وصديقتها الأبدية المتضامنة معها تضامنا أوتوماتيكيا. بل إن ماير كتب أن جونثان باول، مدير ديوان توني بلير، أصدر له تعليمات بأن يتقرّب إلى إدارة بوش ويلاصقها ملاصقة حميمة حتى «الولوج في مؤخرتها والبقاء هناك» (هكذا!). وبالفعل، شمل عمل ماير حميميّات، أو إخوانيّات، مثل لعب التنس مع مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس والتزلج على الماء مع وزير الدفاع دونالد رامسفيلد.
وقد كانت مذكرات ماير مضرة بسمعة بلير إلى درجة أن وزير الخارجية جاك سترو قرر عامئذ منع جريمي غرينستوك من نشر مذكراته. وكان غرينستوك زميلا لماير في الفترة ذاتها: سفيرا لبريطانيا لدى الأمم المتحدة ثم ممثلا لها في العراق، أي مساعدا للحاكم المدني الأمريكي بول بريمر. ولهذا لم تصدر مذكرات غرينستوك إلا عام 2017 (!)، أي بعد أن فقدت شهادته حول «تكاليف حرب العراق» كل قدرة على التأثير، أو حتى الإضاءة، علما أنه هو الذي شهد أن دوائر القرار في أمريكا وبريطانيا كانت تعرف منذ عام 1998 أنه لم يكن لدى العراق أي قدرات أو برامج نووية.
وماير هو صاحب القول المعروف بأن حلف العدوان على العراق قد “وقّع بالدم” أثناء زيارة بلير لبوش في مزرعته بتكساس في أبريل 2002، وبأن «المرجح أن التاريخ سيحكم بأن هذا الحلف كان مهتز الأساس كليا سواء من حيث التصور أم التنفيذ». ومن آرائه المعاكسة للتيار السائد أنه لا وجود إطلاقا لما يسمى بـ«العلاقة الخاصة» التي تتوهم النخبة السياسية البريطانية أنها قائمة بين أمريكا وبريطانيا، بل ما من علاقة خاصة إلا تلك التي تشج أمريكا بإسرائيل. وبما أن لماير تمرّسا بالصحافة، فقد عمل من 1994 إلى 1996 متحدثا باسم رئيس الوزراء، الجنتلمان المحترم، جون ميجور، كما تولى من 2003 إلى 2009 رئاسة لجنة نظر الدعاوى والشكاوى ضد الصحف البريطانية.
وقدم ماير على البي بي سي سلسلة وثائقيات عن كبريات مدن العالم، حيث برهن أن ما بينها من الخصائص المشتركة (من حيث تركز السلطة واحتكار النخب) أكبر مما بينها وبين بلدانها، كما كتب في الصحافة عن موسيقى الهارد روك التي يحبها (وهكذا يفعل الوزير السابق كنيث كلارك الذي يقدم منذ سنين برنامجا إذاعيا أسبوعيا عن موسيقى الجاز). ومن أطرف ما روى ماير أن عميلات الاستخبارات الروسية حاولن استدراجه، لكن خاب مسعى الحسناوات.
القدس العربي