التوأمان: تونس مغربية والمغرب تونسيا
صادفت زياتي للدار البيضاء، للمشاركة في ندوة فكرية، إحياء الذكرى الـ47 للمسيرة الخضراء التي استرجع بها المغاربة الصحراء الغربية بعد جلاء الاحتلال الإسباني. وقد قرأت، في شهرية «زمان» المغربية، بقلم المثقف اللامع حسن أوريد عن واقعة مثيرة رواها له شهود عيان (والأكيد أنها لم تكن معروفة، إذ إن الحسن الثاني لم يذكرها في سيرته الذاتية الحوارية مع أريك لوران): أن الملك تنقل إلى مطار قرطاج، حيث استقبله بورقيبة وتجولا في سيارة فأسرّ له باعتزامه تنظيم المسيرة الخضراء، وقبل أن يقفل راجعا في اليوم ذاته قال له بورقيبة مودعا: «توكل على الله يا جلالة الملك». وطبيعي أن يكون بورقيبة هو الزعيم المغاربي، بل العربي، الوحيد الذي يقصده الحسن الثاني ويطمئن إليه. فقد كان بين الرجلين مودة خالصة، حيث كان الحسن الثاني يعدّ بورقيبة بمثابة الأب، لما كان بين الزعيم التونسي وأبيه محمد الخامس، رحمهم الله جميعا، من أخوة صادقة، كما كان لبورقيبة عاطفة نحو الحسن الثاني إلى حد أنه كان يناديه «ابني». وليس هذا إلا أحد الشواهد الكثيرة على متانة العلاقة بين تونس والمغرب. علاقة قوية استمرت عبر القرون لتسم التاريخ المعاصر للبلدين بميسم سياسي وثقافي واحد أثناء الكفاح الوطني ضد الاستعمار ثم لتتعزز، في انسجام متنام، منذ بناء دولة الاستقلال.
وكان خروج الحكومة التونسية الحالية على موقف الحياد الرسمي في نزاع الصحراء الغربية بين المغرب والجزائر قد أثار، أواخر أغسطس، استياء لدى النخبة الحاكمة واستغرابا لدى الأوساط الشعبية في المغرب. ومعروف أن الحياد قد ظل من ثوابت الدبلوماسية التونسية في جميع العهود من بورقيبة إلى بن علي فحكومات ما بعد الثورة. ذلك أن الحياد هو الموقف المطلوب، أولا لأنه كان مرضيا لطرفي النزاع على حد سواء، وثانيا لأنه الموقف الدبلوماسي الواقعي الوحيد المتاح أمام تونس حتى عندما كانت في أفضل أحوالها السياسية والاقتصادية داخليا، وحتى عندما كانت تحظى بالاحترام وحسن السمعة دوليا.
فما بالك وهي اليوم، ويا للحسرة، في أسوأ حال في الداخل وفي أضعف وضع في الخارج، جراء غلبة ساسة الصدفة والرداءة على أهل الخبرة والكفاءة وجراء ما اقترفه ولا يزال يقترفه في حقها أبناؤها المتنابزون أبدا.
وكما يحدث في المغرب عادة، فإن النخبة الفكرية والإعلامية لم تقع أسيرة كليا للاستياء الرسمي ولا الاستغراب الشعبي، بل إنها تصدت لمحاولة الفهم وتنزيل الأمور في سياقها التاريخي. وكانت أبرز محاولة للفهم والتحليل هي تلك التي قامت بها شهرية «زمان» بتخصيصها، في عدد أكتوبر، ملفا دسم المادة متنوع الإضاءة للعلاقات التونسية المغربية. وقد أخبرني صديق مغربي مقيم في الخليج بهذا الملف قبيل أيام من سفري، ونظرا إلى أنه لم يكن متاحا على موقع المجلة الإلكتروني إلا الافتتاحية، فقد طلبت من الأصدقاء في الدار البيضاء محاولة شراء نسخة لي، لكن كان الأوان قد فات، فقد نزل عدد نوفمبر إلى الأسواق ونفد عدد أكتوبر.
لم أيأس. إذ ما إن انقضت أيام الندوة حتى انبريت للبحث في المكتبات والأكشاك. عثرت على كثير مما يهمني من الكتب والدوريات، واشتريت بعض أعداد قديمة من مجلة «زمان» في كشك يقوم عليه شيخ طيب، أما عدد أكتوبر فلم يكن له أثر. سألني الشيخ الذي عرف أني تونسي حالما نطقت: تقصد ذاك العدد الذي على غلافه صورة محمد الخامس مع بورقيبة؟ قلت: هو ذاك. قال: لا، لا. نفد منذ مدة! هممت أن أعود أدراجي، ولكن مع انعطافة الطريق استوقفني كشك آخر يعرض طبعة فرنسية قديمة لكتاب كلود برنار الشهير «مدخل لدراسة الطب التجريبي». قبل أن أناول صاحب الكشك النقود حانت مني التفاتة إلى الأعلى، فإذا بشريط مثل حبل الغسيل معروضة عليه أعداد قديمة من «زمان» بينها نسخة واحدة تزين غلافها صورة الزعيمين التاريخيين، المغربي بالطربوش الأبيض والتونسي بالأحمر وكلاهما باسم متهلل الوجه.
تقصدت ذكر القصة لتبيان أهمية العلاقات التونسية المغربية لجميع العقلاء في البلدين. علاقات راسخة لا يمكن أن تنال منها التخبطات العابرة. ذلك أن الصيرورة التاريخية قد رفعت حقيقة الأخوة بين الشعبين والألفة بين النخبتين إلى مقام التوأمة الوجدانية بين البلدين. إذ ليس ثمة في المغرب العربي ببلدانه الخمسة بلدان هما أكثر تشابها في المزاج والثقافة والسياسة من تونس والمغرب. هذا رغم التمايزات في الموقع والحجم وشكل الحكم. أما الدليل على وحدة الرحم الأنثربولوجي لهذين التوأمين فهو أن خياله التاريخي قد تفتق عن الثنائي الفكري الفذ هشام جعيّط/عبد الله العروي والثنائي السياسي الاستثنائي الحبيب بورقيبة/محمد الخامس. ولهذا فلطالما وجدنا في المغرب تونسنا وفي تونس مغربنا، توأمين إليهما نشتاق وكليهما نحبّ.
القدس العربي