من هو المعزول حقا في النظام العالمي الجديد الذي يتشكل؟
الولايات المتحدة تتحدث عن ضرورة الالتزام بنظام دولي قائم على القواعد في بحر الصين الجنوبي، ومثل هذا الرهان هو ما دفعها إلى أن تبحث عن الارتقاء بالشراكة مع مجموعة «الآسيان» نحو شراكة استراتيجية شاملة. في وقت ساهمت فيه عوامل محددة في تسريع التحول إلى عالم من الكتل الاقتصادية المغلقة، من ذلك فرض عقوبات غربية شديدة على روسيا، وما قابلها من تمتين للتحالف الاستراتيجي بين موسكو وبكين، ومن ثم إخراج المستثمرين الغربيين من الأسواق الصينية والروسية، على قاعدة أوجه التشابه الذي تصر واشنطن في سياقه على الربط بين حرب بوتين المتواصلة ضد أوكرانيا، والغزو الصيني المحتمل لتايوان. مسار يرى فيه أمثال جيرمي كليف، إعلان انتهاء العولمة في المعسكر الغربي المتشائم، وقد أعطت الحرب المتواصلة في أوكرانيا مصداقية لهذه الفكرة.
زيارة المستشار الألماني الأخيرة إلى بكين، تؤكد أنه لا يمكن لأوروبا أن تتحمل ارتكاب خطأ في المواجهة مع الصين. وهو تهديد تتصوره واشنطن في المقام الأول، ولكنه غير مقنع لعديد من الدول الأوروبية وكثير من دول العالم. ولدى الصين وروسيا الآن اهتمام مشترك لتقويض حرية الولايات المتحدة غير المقيدة في التدخل العسكري أو الاقتصادي الأحادي الجانب في جميع أنحاء العالم، وهي حرية مارستها على مدى عقدين أو أكثر على الأقل.
وتتمتع روسيا بتقدم علمي وطاقة وفيرة، ومعادن نادرة غنية. كما تتمتع الصين برأس المال والأسواق والقوى العاملة للإسهام في ما يمكن أن يصبح شراكة طبيعية عبر أوراسيا. وعلى الأرجح كما قدر تشومسكي، يميل الطابع الجيوسياسي لروسيا الآن نحو أوراسيا. وليس أمام النخب الروسية بديل سوى قبول فكرة أن مستقبلها الاقتصادي يكمن في المحيط الهادئ. وفي الأثناء، النفط لا يزال يلقى طلبا في السوق العالمية، ما يجعل حرب الطاقة الحالية في صالح روسيا، إلى حين انتشار مصادر الطاقة غير الأحفورية في غالبية اقتصاديات العالم. وأحد الدروس المستفادة من حرب أوكرانيا تكمن في أنه من الخطر أن يعتمد بلد ما على خصم جيوسياسي للحصول على طاقته. وعندما لا تنضم إندونيسيا والصين والهند والبرازيل وتركيا والأرجنتين، وغيرها من الدول على غرار دول الخليج ومصر إلى الولايات المتحدة والغرب في نبذ روسيا وعزلها. يصح التساؤل حينها، من هو المعزول فعلا في النظام العالمي الجديد الذي يتشكل؟ بالتأكيد ليست روسيا، مثلما تحاول الآلة الدعائية الغربية أن تسوق ذلك لدى الرأي العام العالمي، لكسب الحرب إعلاميا، والتأثير في زخم الحرب ميدانيا.
في بحثه عن الإمبراطوريات ومنطق الهيمنة العالمية، ينتقد هيرفريد مونكلر اقتراح جوزيف ناي، الذي يقضي بضرورة أن تعتمد الولايات المتحدة الأمريكية في مساعيها الرامية إلى تأمين أركان سلطانها وتعزيزه على القوة الناعمة، لا على القوة الخشنة في المقام الأول، بأنه محدود الجدوى بالنسبة إلى الحروب الأهلية، أي الحروب من أجل المحافظة على الهوية القومية، أو الهوية الدينية، أو القيم الثقافية. كتلك التي صبغت أحداث 11 سبتمبر في نيويورك. والأمر الذي لا شك فيه أبدا هو أن تأثير القوة الناعمة في نمط الحياة في المجتمعات الهامشية أعظم بكثير من التأثير الذي تخلفه القوة الخشنة، فهي، أي القوة الناعمة، تُغير هوية السكان المحليين، على حين أن القوة الخشنة تؤثر في توزيع القوى فقط. والأصولية بكل صيغها المختلفة، تنطوي على مقاومة للقوة الناعمة التي يصدرها مركز امبراطوري معين. وليس هناك أمر يحتم أن تستخدم هذه المقاومة السلاح. بيد أن «العنفوان العاتي» الذي تنتشر به القوة الناعمة يشكل إغراء مستمرا لاستخدام أساليب العنف. هذا ما حدث في أفغانستان، فشلت أمريكا في الحرب هناك، وانسحبت بطريقة مخجلة بعد عقدين من المواجهة مع حركة طالبان. ولم تستطع القنابل أن تغير نمط تفكير أو هوية الأفغان المحلية، هل نجحت القوة التي تحمل في جوهرها قدرة أمة ما على التأثير في أمم أخرى، وتوجيه خياراتها العامة، استنادا إلى جاذبية نظامها الاجتماعي والثقافي، ومنظومة قيمها ومؤسساتها، بدل الاعتماد على الإكراه أو التهديد، أي استراتيجية القوة الناعمة، وما تعنيه من القدرة على امتلاك الجاذبية للتأثير في سلوك الآخرين من دون إرغامهم بتهديد أو إغرائهم بمورد مادي؟ يبدو أن أمريكا في طريقها إلى التخلي عنها لصالح نهجها القديم القائم على القوة والتدخل الخارجي لخدمة منطق الهيمنة العالمي، ولكن المأزق الأمريكي اليوم، يكمن في تراجع أرصدتها لهذا المسار، بالنظر إلى التوازنات الجديدة التي تفرضها روسيا والصين وحلفاؤهما الإقليميون، على غرار إيران وكوريا الشمالية.
إحدى أهم استراتيجيات بكين على مدى عقود كانت، البناء الصامت، والابتعاد عن أي مواجهة خارجية، وانتظار اللحظة المناسبة للبروز عالميا، على المستوى الاقتصادي والتجاري والاستثماري، وبناء قاعدة من الشراكة الاستراتيجية مع عديد الدول. وتقدم الصين في تشكيل التحالفات في الوقت الحاضر يأتي من حركيتها وقوة وجودها الخارجي عبر استثمارات في مختلف أنحاء العالم. والأهم في كل ذلك أن براغماتيتها الخالية من المطالبات، انبنت على قاعدة المنافع المتبادلة، وليس على أساس القوة والإكراه كسياسة متبعة أمريكيا منذ عقود. بكين التي أسست نموذجا هجينا بين الاشتراكية والرأسمالية، أي نموذجا هجينا بين تحكم الدولة وفلسفة الاقتصاد الحر، انتظرت اللحظة المناسبة لتكشر عن أنيابها. والحقيقة الساطعة في السنوات الأخيرة، هي أنه لا توجد بين كل الدول الصاعدة اقتصاديا الآن دولة قادرة على منافسة الولايات المتحدة عسكريا واقتصاديا سوى الصين. واقعية جيوسياسية استشرف بعض ملامحها الكبرى ميرشايمر في كتابه «تراجيديا سياسات القوى العظمى»، إذ إنه لا يمكن بأي حال من الأحوال قبول أمريكا بالصين متفوقة عسكريا واقتصاديا. ورفضها وجود منافس محتمل لهيمنتها في شرق آسيا والمحيط الأطلسي، يجعلها تبذل جهدها لاحتواء بكين. من دون ذلك، لن يكون صعود الصين سلميا. وفي كل الحالات، لا يمكن الجزم بما يخبئه مستقبل الصراع بين الصين والولايات المتحدة، فواشنطن تتجنب مفاقمة الصراع في أوكرانيا بينها وبين قوة نووية كبرى هي روسيا، التي تعتبر على طرفي نقيض معها في ما تُسميه واشنطن تنافسا إستراتيجيا، وكذلك حالها مع الصين. ومع ذلك سواء رضيت أمريكا أم لم ترض، فإن النظام الدولي لم يعد خاضعا لمتطلبات الاقتصاد الأمريكي، أو قابلا للتحكم والضبط السياسي وفق إرادة أحادية متغطرسة.
عالم متعدد المحاور والتكتلات، تتسع دائرة تحالفاته وتتعاظم أخطاره، ومفاعيل الجوائح السياسية، لا ينفك من خلالها المولعون بالفوضى والحروب في كل مرة تهديد أمن البشرية وسلامة الكرة الأرضية، فهل يمكن للصين وأمريكا أن تستمرا في السعي لبناء استراتيجيات تعاون رغم وجود صراع حول فكرة الريادة وواقعية المواجهة الجيوسياسية؟
القدس العربي