أوكرانيا: هل كان بالإمكان تجنب الحرب؟
تختلف التحليلات حول من سيكون الأكثر تأثرا بالأحوال الجوية الصعبة، ما بين الروس والأوكرانيين مع دخول فصل الشتاء، أما على الصعيد العالمي فما تزال الدول، في أقاليم الأرض المختلفة، تتابع الوضع بقلق. العالم الذي كان ما يزال يحاول تجميع قواه بعد تعرضه لهزة قوية، نتيجة لجائحة فيروس كورونا، فوجئ بمواجهة أزمة جديدة قاسية على صعيد الغذاء وموارد الطاقة، وهي الأزمة التي فاقمها ارتفاع الأسعار العالمي والتضخم وحالة الانكماش الاقتصادي التي عانت منها دول كبرى.
يصعب حتى الآن القول إن هذه الأزمة، التي لم تعد تداعياتها مقتصرة على أطرافها المباشرة، في طريقها للحسم، ومع تمسك كل طرف بموقفه وتعقد عملية التفاوض يطرح سؤال موضوعي نفسه: هل كان بالإمكان تجنب هذه المأساة؟
يذكّر هذا السؤال بما طرحه أستاذ العلاقات الدولية الأمريكي جون ميرشماير في كتابه «تراجيديا سياسة القوى الكبرى» الذي ذهب فيه إلى أنه لا بد في مرحلة ما من أن يحدث صدام بين الدول، التي لن تلبث أن تختلف وتتقاطع مصالحها. كانت هذه النظرية تمثل وجهة النظر المناقضة للنظرية التي تقول إن الحرب التقليدية لن تكون واردة بين دول الشمال وإن مكانها سيكون عوالم الجنوب فقط.
أكد توغل 2014 وضم القرم صحة ما ذهب إليه ميرشماير حول «الحرب التي لا مفر منها»، ومنذ ذلك الحين كان احتمال الانزلاق مجددا إلى العسكرة واردا، بعد أن أوضحت موسكو بشكل لا يقبل التشكيك أنها لن تتلاعب حينما يتعلق الأمر بتهديد الأمن القومي. كانت ردود الأفعال حول احتمالية نشوب حرب مختلفة، لكن لم يكن من بينها بحث سبل تجنب وقوعها. على سبيل المثال، وفي الوقت الذي قامت فيه وزارة الدفاع الفنلندية في منتصف عام2015 بتوزيع رسالة إلى 900.000 مواطن تحثهم فيها على الاستعداد للخدمة العسكرية الإجبارية في حال الدخول في حالة «الوضع المتأزم»، كانت لتوانيا تقوم بتفعيل التجنيد العسكري، أما بولندا التي بدت منذ ذلك الحين شديدة التخوف من حصول اجتياح روسي، فمضت إلى ما هو أبعد من ذلك، حين قامت بتعيين جنرال ليكون مسؤولا عن الدفاع في حال اندلاع الحرب.
كان لهذه الدول دوافعها ومخاوفها المشروعة، خاصة فنلندا، الدولة غير العضو في الناتو، التي تتشارك مع روسيا حدودا واسعة وهشة. الغريب في الأمر أن الدول الأوروبية، وعلى الرغم من هذا الشعور العميق بالخطر والتهديد، إلا أنها لم تكن تكتفي فقط بمنع السلاح الاستراتيجي عن أوكرانيا، ولكن معظمها لم يقم بأي إجراء لزيادة كفاءته الدفاعية. هذا جعل مخططات مثل مشروع رفع الميزانية الدفاعية لدول الناتو إلى 2% التي تم إقرارها في قمة كارديف (سبتمبر/ أيلول 2014) مجرد حبر على ورق، بل إن أغلب الدول الأوروبية ظلت تتابع سياستها التقليدية لتخفيض الإنفاق العسكري، حتى إبان اندلاع الحرب. محللون مرموقون مثل الإيرلندية جودي ديمبسيـ يفسرون ذلك بأن أوروبا تتعامل بما سمته «كسلا عقليا» يجعلها لا تفكر سوى بالاعتماد على الولايات المتحدة. النخبة السياسية في هذه الدول، وفق ديمبسي، لا تريد أن تستوعب أن الزمن تغير، وأن الأمريكيين لن يتدخلوا بالضرورة للدفاع عنهم كما حدث خلال القرن الماضي.
في يناير/كانون الثاني من عام 2016 أجرت «بيلد زايتونغ» الألمانية مقابلة مهمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كانت تلك إحدى المقابلات التي تحدث فيها بوتين بوضوح عن آرائه حول حلف الأطلسي، وعن حدود ما يرى أنه أمن قومي لبلاده لا يمكن التلاعب به. عبّر بوتين في تلك المقابلة عن رفضه لأن يضم الناتو أي عضو من فضاء الاتحاد السوفييتي السابق، وذكّر بالتعهد الغربي السابق الذي جاء عبر السياسي والدبلوماسي الألماني إيغون باهر، الذي كان مفاده أن الحلف، المعادي بطبيعته لروسيا، لن يسعى لضم أي من الجمهوريات السوفييتية المستقلة. اسم باهر مهم في إطار تتبع العلاقة الروسية مع الغربيين، التي تتميز بانعدام متبادل للثقة، كان باهر، ومنذ ستينيات القرن الماضي، أي في أوج الحرب الباردة، من أهم رموز ما سيعرف بدبلوماسية التهدئة والقنوات الخلفية. كان مفاد تلك السياسة هو أنه، مهما بلغ العداء، فإنه يجب أن تكون هناك قناة للتواصل. سوف تنجح دبلوماسية التهدئة، التي يطلق عليها أحيانا مصطلح «أوست بوليتيك»، في فتح حوار مع ألمانيا الشرقية ومع الكتلة الشرقية بشكل سوف يفضي في الأخير إلى تحطيم جدران برلين. بالنسبة لروسيا، ولكثير من دول الجنوب، يرتبط اسم باهر بجانب ذلك كله بالعقلية الغربية التي لا تفي بوعودها، والتي لا يهمها سوى مصلحتها. سيكرر الغربيون طريقة التعامل تلك في مناطق كثيرة من العالم، ففي السودان مثلا وُعد نظام البشير بإلغاء العقوبات والتطبيع في حالة الموافقة على فصل الإقليم الجنوبي، الوعد الذي لم يلبث أن تبخر حينما حصل داعمو الانفصال على مبتغاهم.
في الحالة الروسية أفضت التفاهمات إلى انهيار الاتحاد السوفييتي، مع وعود بحفظ الأمن الروسي وعدم الاقتراب من مناطق نفوذه. كان النكوص عن هذه الوعود، خاصة حينما وصل الأمر لأوكرانيا، بمثابة إثبات جديد على أن الغرب لا يؤمن بمبدأ المصالح المتبادلة أو ضرورة توازن القوى. الدول الغربية تتبني سياسة الـ»ريال بوليتيك» وهو مصطلح ألماني يترجم أحيانا إلى العربية بالسياسة الواقعية وهي ترجمة غير دقيقة وأدق منها وصف هذه السياسة بالبراغماتية، أو بسياسة القوة التي تجعل دولا معينة أكثر هيمنة على المسرح الدولي من غيرها. هيمنة تجعلها لا تحتاج لأن تبرر تدخلها السياسي أو العسكري في أي مكان. النقطة الأخيرة شكّلت دافعا آخر للمواجهة، لأن. السبيل الوحيد لإثبات روسيا، العضو الدائم في مجلس الأمن والقوية اقتصاديا وعسكريا، تعتبر أنها من الدول المفتاحية، التي لا يمكن تجاهل مصالحها كما يحدث مع غيرها ذلك كان التدليل على أنها قادرة على المضي إلى أبعد مدى في سبيل الدفاع عن حقوقها، بما يشمل إعلان الحرب للحفاظ على مناطق نفوذها التقليدية.
في المسألة الأوكرانية استعارت روسيا بشكل واضح منطق الـ»ريال بوليتيك» الغربي، حيث اعتمد منطق الحرب لديها ليس فقط على مبدأ احترام مناطق النفوذ، ولكن أيضا على مبادئ أخرى مترسخة في القانون الدولي المعاصر كـ»حماية الأقليات» و»الحق الدولي في التدخل والحماية»، الذي يسمح بالتدخل الدولي في حالة حدوث انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في أي بقعة من العالم. بعد القيام باستفتاءات شعبية كانت نتيجتها إيجابية لصالح القبول بالانضمام، كانت روسيا تضيف لذلك كله حقا مرجعيا آخر وهو المتعلق بضرورة احترام خيارات الشعوب في ما يتعلق بمصيرها. استخدام روسيا لهذا المنطق وتفسيراتها للقانون الدولي يمكن أن يكون مثار جدل أو رفض من قبل كثير من الدول الغربية، التي كانت تنوي تحجيم البلد ومعاقبته، لكن الواضح، بعد قرابة العام من بدء الأزمة، أن الخيار العسكري لن يكون حلا نهائيا، مثله في ذلك مثل سياسة العقوبات التي أثبتت فشلها. اليوم لا يجادل أحد في أن الأفضل من كل ذلك هو الحوار للوصول إلى منطقة وسطى ومناسبة للجميع ولو على طريقة قنوات باهر الخلفية.
القدس العربي