سِر… وفي الدارجة المغربية: «سير»
فعل مُصرّف بصيغة الأمر، أكسبه مدرب المنتخب المغربي وليد الركراكي شهرة لا تضاهيها شهرة. عندما بلغني الأمر، لم أستطع مقاومة ذكرى رافقتني منذ صغري، حين انغرس هذا الفعل وانغرست معه تبعاته النفسية، على نحو امتزجت فيه انفعالات بسيطة لتلميذ صغير وصل في منهاجه التعليمي إلى درس كتابة حرف «السين»، بقول يوفر أرضية سهلة لاستخراج سلوك مفعم بالحكمة :
«سيري سيري سلحفاتي، مسكنك معك حيث سرتِ».
كم وجدتها جميلة هذه الكلمات. ومنعشة ومعبرة (كانت لدينا سلحفاة في بستان البيت). وإذا كنت أتذكرها بعد سنوات، فليس لمجرد لطفها، لكن لما يحمله السير البطيء من دلالات، دلالات العزيمة والجهد والكفاح المؤصلة في الاستمرارية.
لم يحدد وليد الركراكي للسير طبيعة ولا إيقاعا. وقد يستغرب مني القارئ هذه الملاحظة، فالمفروض أن يكون الأمر طبيعيا دونما حاجة للحديث عن طبيعة! المفروض أن يتمثل لك حكيمي وبوفال وزملاءهما متوجهين بسرعة صاروخية إلى مرمى الخصم، لتسجيل هدف الانتصار، حينها تتعالى هتافات ويهرول مهرولون إلى الشوارع، وتعلو مباهج نشوة لا يعلى عليها.
هكذا المفروض وللسير هذا التحديد فعلا، لكنّ للسير تحديدا آخر أيضاً، معروفا ومتعارفا ومتداولا، وهو أقرب إلى سير السلحفاة: «من سار على الدرب وصل». محاسن السير البطيء، بل ضروراته، صبر ومثابرة، لدرجة أن ميلان كونديرا كتب رواية «البطيء». لا توجد معركة نفسها قصير.. لا معركة إلا ونفسها طويل. وأكثر ما يبهرني في المدرب الركراكي إيمانه الراسخ بمزايا الزمن الطويل. الحياة قصيرة، لكن الزمن طويل، لأن الزمن الطويل رديف العمل الدؤوب، لكن لا عمل يؤتي أكله، من دون إدخال عنصر الزمن في الاعتبار، وهذا ننساه كثيرا، ننساه لأننا دخلنا معاصرة حدد الاستهلاك معالمها، دخلنا ثقافة النتيجة الفورية التي حصرت وحاصرت تحديد «السير» عند مستواه الأول، مستوى سرعة الأداء ودوامة الابتهاج الجنوني، مستوى قد ينحدر إلى ترقب السلعة الجاهزة قبل الشروع في تصنيعها حتى، لقد أغفلنا التحديد الثاني، تحديد السير البطيء، السير «السلحفاتي»، إذا أجيزت لي العبارة. أغفلنا مع أن من دونه لا يستقيم السير السريع.
بعد الحديث عن منهاج «قراءتي» الذي كان معتمدا لتعلم العربية في سنواتي الابتدائية في المدرسة الفرنسية بالمغرب، ننتقل إلى صورة ما زالت عالقة بذاكرتي في منهاج اللغة الفرنسية من مرحلة التعليم الإعدادي. صورة لاعب يعدو.. على خلفية مد وجزر من المشجعين أرجعتهم الرتوشات الفوتوغرافية إلى موجة عاتية تعبث بهم. عبث النشوة في خدمة السير إلى الأمام. سر، وفي الدارجة المغربية: «سير». مهما كانت النتائج المقبلة، من المؤكد أن الشعار أوصلنا أصلا إلى نقطة اللاعودة، لا عودة عن إنجازات ما كتب لها أن تتحقق لولا فعل مصرف في صيغة الأمر على الطريقة المغربية حوله «سي وليد» إلى قريحة يجود بها فريق كامل، بل شعوب كاملة اقتنعت بأن فقط السماء هي الحد.
القدس العربي