حين تعطي الكرة دروسا سياسية
حدث كبير أن تصل المغرب للمربع الذهبي في نهائيات كأس العالم لكرة القدم، في سابقة لم تحصل لأي دولة عربية أو افريقية من قبل. ولم يبق عربي أو عربية واحدة إلا وامتلأ نشوة وفخرا بهذا الإنجاز الكبير. وفي الوقت نفسه، رافقت هذا الانتصار دروس سياسية أتت بطريقة عفوية وعن غير قصد، لكنها عِبَرٌ تستحق التوقف عندها واستخلاص نتائج مهمة ينبغي البناء عليها للوصول إلى مستقبل أفضل للمنطقة كلها.
وفي طليعة هذه الدروس هذا التعبير العفوي الصادق والطبيعي لدعم فلسطين والقضية الفلسطينية، لم تطلب دولة قطر من الجماهير العربية الآتية لحضور المباريات أن ترفع علم فلسطين، ولم توزع هذه الأعلام أو تزج بين أيدي الناس بطرق قسرية، كنا قد اعتدنا عليها في المنطقة، بل رُفعت من قبل الجماهير العربية والخليجية، كتعبير صادق وعفوي دعما لفلسطين واحتجاجا على الممارسات العنصرية للاحتلال الإسرائيلي. ولم يبق صحافي إسرائيلي حاول تغطية الحدث، أو مقابلة الناس إلا وتعرض لتأنيب سلمي وصارم في الوقت نفسه، ورسائل واضحة بأن وجوده غير مرحب فيه.
يحدث كل ذلك في الوقت الذي يقال لنا، إن القضية الفلسطينية ما عادت تحظى بأولوية لدى الشعوب العربية، وإن أولويات الشعوب العربية عامة، والخليجية خاصة، باتت في أماكن أخرى، بل إن الاتفاقيات الإبراهيمية دليل على أن الشعوب العربية تولي الاهتمام لمصالحها الاقتصادية والأمنية وتعليها على أية اهتمامات سياسية تتعلق بالاحتلال الإسرائيلي وضرورة إنهائه.
إن الدرس السياسي للمشاعر الشعبية التي رآها العالم بكل وضوح، هو أن الموقف الشعبي العربي، من المغرب غربا حتى قطر شرقا، ما زال يولي القضية الفلسطينية اهتماما كبيرا، رغم الاتفاقات الموقعة بين بعض دوله وإسرائيل. يتفق هذا الكلام مع كل الاستطلاعات الإقليمية والدولية التي أجريت حول الموضوع، والتي يتم تجاهلها من الدوائر الرسمية في عدد من العواصم العربية أو الدولية، لأنها لا تتفق مع ما يراد أن يروج له من أن العالم العربي مستعد للسلام مع إسرائيل، من دون التوصل لحل للقضية الفلسطينية. وكما أثبتت اتفاقيات السلام الموقعة بين إسرائيل وكل من مصر والأردن قبل عقود، ستبقى هذه الاتفاقيات تمثل سلاما بين الحكومات وليس بين الشعوب، حتى إنهاء الاحتلال وتحقيق الفلسطينيين لتطلعاتهم السياسية. قلت هذا الكلام عام 1995 حين كنت سفيرا للأردن في تل أبيب، وأكرره اليوم، كما تكرره كل الجماهير العربية من ملاعب كرة القدم في قطر. لا يحتاج المرء للكثير من التفكير ليدرك أن مثل هذا الإنجاز المغربي ما كان يمكن له أن يتأتى عن طريق وضع أحد عشر لاعبا في الملعب، والتمني أن يتمكن هؤلاء من تسجيل الأهداف في مرمى الخصم، أو صد الأهداف عن مرماهم. كما لا يحتاج المرء للتفكير العميق ليدرك أيضا أن اللياقة البدنية للاعبين مهمة، ولكنها غير كافية للفوز إن لم ترافقها خطة محكمة يتم التدريب عليها لوقت طويل قبل الدخول إلى الملعب، فالمهارات الفردية رافد وليست بديلا عن العمل الجماعي والخطة المحكمة. إن كانت بديهيات كرة القدم هذه مفهومة بشكل واضح لمختلف الناس، فلماذا ننجح في تطبيقها كرويا ونعجز عن فعل ذلك سياسيا؟ تصوروا لو أن مدرب كرة القدم قال، إن الوقت غير مؤات للعمل الجماعي، وإن الخطة الموضوعة تعتمد على المهارات الفردية للاعبين، ولو إن العديد منهم أتى للفريق عن طريق الواسطة والمحسوبية، ولا يتمتع حتى باللياقة البدنية المطلوبة. تخيلوا لو أن المدرب حاول إقناعنا بأنه رغم اضطراره لإدخال عناصر بناء على محاصصات مناطقية بحتة، سيتمكن فريقه من إحداث الانتصارات، فهل سيقتنع أحد من عامة الناس بهذا المنطق؟
ما ينطبق على كرة القدم ينطبق على إدارة البلاد، إن العمل الجماعي، المترجم بالطبع من خلال أحزاب سياسية تقوم على وضع الخطط وتنجح أو تفشل في الانتخابات بناء عليها، وتأتي إلى الحكم لتطبيق هذه الخطط من قبل أفراد مؤهلين، نساء ورجالا، وحده من يؤمن النجاح. لما تكون الأمور واضحة عندما يتعلق الأمر بكرة القدم، أما في السياسة، فنسعى دائما لاختلاق كل الأعذار لإقناع الناس بأن الأمور أكثر تعقيدا من مباراة كرة قدم. في علم الرياضيات، هناك قاعدة تقول إنه عندما يتعثر حل مسألة معقدة، من المفيد الرجوع إلى الأساسيات. والأساسيات واضحة، للوصول إلى الاحترافية المطلوبة للفوز في المباريات، من الضروري وجود خطة واضحة مبنية على العمل الجماعي، مصحوبة بمهارات فردية ولياقة بدنية. نستطيع اختلاق كل الأعذار لما يتعذر ذلك في السياسة، لكن النتيجة واحدة. لن نربح المباريات بهذه الطريقة.. عديدة دروس كرة القدم لمن يرغب أن يتعظ.
القدس العربي