كأس العالم للشهداء
تماماً كما كل العالم، أعدت بيوت الفلسطينيين أعلام الفرق التي تشجعها، وقررت أسر بأكملها أن تتحلق حول التلفزيون، وتحققت من امتلاكها لإمكانية الوصول إلى القنوات الناقلة لمباريات كأس العالم، وعززت مخزونها من المسليات وفق إمكاناتها، ودعت بقية الأهل والأصدقاء للانضمام إليها في رحلة الحماسة والتسلية، بينما شحن المتنافسون مخزون معلوماتهم بكثير من التفاصيل ليستخدموها في الجدال الذي عادة ما يصاحب المباريات. كذلك فعلت المقاهي والمطاعم ودور العرض والساحات العامة، لتتسلح جميعها بقدر كبير من الأمل المجبول بألم الأيام، سعياً لإدخال السعادة والفرح إلى صدور الناس، خاصة بعد أن تكدرت أيامهم بفعل المصائب والنوائب والأنواء المتتابعة، التي لاحقت هدوء فجرهم وأيامهم ولياليهم وصلواتهم ودور عبادتهم.
العائلات ذاتها قرر الاحتلال الإسرائيلي الغاشم أن يدوس فرحها المنشود لتمتد إليها يد بطشه فتنال من أكثر من أربعين شهيداً ولتتحول دواوين الفرح إلى سرادق للعزاء تستقبل جيوش المعزين، حتى بات القتل بالجملة مروراً باستهداف الأخوين جواد وظافر الريماوي ووصولاً إلى الأخوين محمد ومهند مطير، اللذين ارتقيا في الساعات التي انتهت فيها مباريات المونديال ولتفوز أمهات الشهداء بكأس جديد للعالم اسمه كأس العالم للشهداء، تلك الكأس المملوءة بالصبر والكبرياء، ولتنضم إليهن جميعاً بعد ساعات فاصلة وحاسمة، خنساء فلسطين البطلة أم ناصر أبو حميد بعد أن ترجل نجلها ناصر فتحررت روحه وبقي جسده محتجزاً تحت رحمة السجان.
وعليه وما أن أضيئت أضواء الملاعب في قطر إيذاناً باستقبال المشجعين، أضيئت أضواء بيوت العزاء في فلسطين لتستقبل المعزين المؤبنين. عالم يهلل فرحاً بالكرة، وعالم يهلل فرحاً بمهرجانات الصبر والكرامة والشهادة. أمهات يشاطرن أبناءهن فرح مشاركة وتألق أبنائهم اللاعبين في المونديال، وأمهات يشاطرن أبناءهم تعملقهم في ساحات الوغى، أمهات تقّبلُ أيديهن لفضلهن في وصول النجوم إلى استادات كأس العالم، وأمهات يقبلن جباه وأيدي أبنائهم المترجلين، لتغطي دموعهن الحارة برودة تلك الأيدي ودماء تلك الجباه، لتجتمع أركان ذلك المشهد السيريالي. أكثر من أربعين شهيداً قدمت فلسطين تقريباً خلال كأس العالم، فاستمر العالم في حياته الاعتيادية، بينما لو شاء القدر أن يطال القتل أربعين إسرائيلياً فهل سيبقى العالم على حاله يا ترى؟ أياً كانت الإجابة فإن الشعوب على بهجتها لم تنسَ التاريخ، ولم يفتها أن تعبر عن رأيها الحر، فرفضت إجراء مقابلات مع محطات إسرائيلية ومراسلين صهاينة، بل ارتأى الكثيرون أن يلقن هؤلاء دروساً في القيم والتاريخ والأخلاق، وأن يحملوا علم فلسطين على رؤوسهم نصرة للحق وأهله، فبقي العلم خفاقاً في كل المباريات. وعليه لا بد لثلاثة أطراف من أن يستخلصوا الدروس والعبر: إسرائيل بكامل أركانها، دول التطبيع بكامل مكوناتها، ودول التقاعس التي ما زالت تتستر على جرائم إسرائيل وتتغنى بها، وتشيد بديمقراطيتها المزعومة وحقها المزعوم في ما يسمى بالدفاع عن نفسها. عالم متقاعس يحاضر في قطر عن الإنسانية والرقي والتنوع والحضارة وحقوق العمال، بينما يدير ظهره لأبسط معاني الآدمية، لنرى منه الشيء ونقيضه في الآن نفسه، وفي المنطقة الجغرافية العربية الإقليمية ذاتها.
لقد فازت قطر ومن دون منازع بكأس العالم لكرة القدم، وفازت فلسطين بكأس العالم للشهداء، بينما ننتظر جميعاً أن يفوز العالم المتقاعس بكأس العالم لأحادية المعايير، وإنفاذ العدل، ورد الحقوق، وإدانة الظلم. عندها سيكون الدرس الأخلاقي الكبير الذي قدمه المونديال للعالم قد بدأ تطبيقه وتفعيله والاستفادة من عبره. فهل تعتبر البشرية؟ وهل تصل رسائله في كل الاتجاهات؟ ننتظر ونرى!
القدس العربي