ولن تتوقف قطر عن إبهار العالم بعد مفاجآت المونديال
كتبت قطر تاريخا جديدا لبطولة كأس العالم لكرة القدم، ووضعت البطولة على منصة أعلى بكثير عما كانت عليه طوال تاريخها، وقدمت للعالم نسخة جديدة منها لم يحلم بها عشاق الساحرة المستديرة، ولم يتوقعها حتى الاتحاد العالمي لكرة القدم، الذي وقف كتفا إلى كتف بجوار قطر، عندما تعرضت لحملة ظالمة، استكثرت على بلد عربي صغير أن يستضيف وحده، من دون مشاركة من غيره أهم بطولة في رياضة كرة القدم العالمية. الذين استكثروا على قطر أن تحظى بشرف تنظيم البطولة وضعوا رؤوسهم في الوحل، وذهبت اتهاماتهم ومحاولاتهم التشويهية إلى صناديق القمامة مجللة بالعار. العالم كله أصابته الدهشة من دقة التنظيم، وحسن الإدارة وكرم الضيافة، وهو ما يعكس قيما أكبر من أن تهزمها أو تشوهها شارات ملونة، أو افتراءات لا يجوز لها أن تتسرب إلى ملاعب كرة القدم، حيث أن المنافسة الرياضية هي رسالة للمحبة والسلام وليست دعوة للكراهية والعداء.
تنوع ثقافات العالم
قطر كانت حريصة على ضرب المثل بضرورة المحافظة على القيم وضرورة احترامها وعدم التجرؤ عليها، لأن هذه القيم الإنسانية التي تحتضنها المنطقة هي جزء من شخصيتها التاريخية، وهي رافد أصيل وعميق الجذور من روافد التنوع الثقافي في العالم، يجب الاحتفال به. وكان مونديال قطر مناسبة مليئة بالبهجة لفتح أبواب ونوافد العالم كله، حضوريا أو عبر وسائل التواصل من خلال شبكات المعلومات العالمية، على المنطقة بكل ما فيها. لم يكن أبدا من الملائم أن ترتدي قطر ثوبا غير ثوبها، ولا أن تقدم عن نفسها صورة مشوهة، لمجرد إرضاء البعض، بل على العكس كان من الضروري أن يكون مونديال قطر فرصة تاريخية لترسيخ مفهوم التنوع في العالم، بواسطة رسائل بسيطة وصور تلقائية وتعاملات إنسانية دافئة بين الأفراد. ويوما بعد يوم أخذ المشجعون يقتربون من فهم مفردات الثقافة العربية، من خلال المعاملات اليومية العادية، بما في ذلك مفردات بسيطة جدا، مثل الملابس والطعام وبساطة الحياة، التي تعبر عن العلاقة المركبة الثرية بين الإنسان والصحراء والبحر والعمران والتكنولوجيا. يوما بعد يوما تبخر الصراخ بشأن المشروبات الكحولية في الملاعب، وسيطر الصمت على أبواق التشهير واختلاق العداوات، والحط من قيمة ما يتحقق. يوما بعد يوم نشأت علاقات أُلفة بين جماهير المشجعين، التي جاءت من كل أركان الأرض، ليس لتشجيع فريقها فقط، ولكن للاستمتاع بفنون كرة القدم، والبقاء في قطر طوال فترة المونديال.
مونديال المفاجآت
هؤلاء الذين وفدوا من كل أركان الأرض لمشاهدة مباريات المونديال، لم تخيب قطر ظنهم، بل استقبلتهم في حفاوة، وقدمت لهم أبهى ما تستطيع، وزاد من عظمة العرس الكروي العالمي أن الفِرَق المشاركة قدمت فعلا أحلى ما عندها. وكان مونديال قطر بحق هو مونديال المفاجآت، ففيه خرجت البرازيل المرشح الأول للفوز بالبطولة، لكن الأرجنتين لم تخيب ظنون أمريكا اللاتينية ففازت، وانتقل كأس العالم لكرة القدم من فرنسا إلى الأرجنتين. المفاجآت في مونديال قطر كانت كثيرة ومنذ اليوم الأول، من دور المجموعات إلى المباراة النهائية. وكان المونديال فألا حسنا على الفرق العربية المشاركة؛ فحققت السعودية المفاجأة الأولى وفازت على الأرجنتين، التي عادت وفازت بالبطولة وتوجت بكأس العالم. تونس هزمت فرنسا عندما كانت الأخيرة ما تزال حامل اللقب العالمي، بطل كأس العالم في النسخة السابقة.
أما المفاجأة الأكبر في مونديال قطر فكان المغرب، الذي تمكن فريقه بأدائه الرجولي المبهر من الفوز على بلجيكا وإسبانيا والبرتغال، ووصل إلى نصف النهائي ليحقق تاريخا جديدا لكرة القدم العربية والافريقية. ونتمنى له أن يواصل رحلة التفوق والتقدم والفوز بكأس العالم بإذن الله. وغدا سيأتي بالضرورة اليوم الذي ينتقل فيه كأس العالم لكرة القدم من أوروبا وأمريكا اللاتينية، القارتين اللتين تتبادلان الكأس حتى الآن، إلى افريقيا القارة الصاعدة. وبإذن الله يكون المغرب صاحب نصيب الحصول على الكأس لافريقيا لأول مرة، وأن تتبعه دول أخرى بعد ذلك. المفاجأة المغربية في حقيقة الأمر لم تتوقف عند الفريق واللاعبين فقط، وإنما تجاوزت ذلك إلى المشجعين؛ فضرب المشجعون المغاربة للعالم كله درسا عظيما في الاحترام والوفاء لفريقهم ولاعبيه والفرق الأخرى. وابتكر المغاربة طريقة للتعبير عن تشجيعهم للفريق والتضامن معه كانت مثالا في الانضباط والتنظيم، وكان وقوفهم وراء الفريق أحد عوامل قوة اللاعبين، وأحد أسباب ارتفاع روحهم المعنوية في كل مراحل البطولة، من دور المجموعات إلى نصف النهائي. أما الظاهرة التي لفتت انتباه الجميع في كل أنحاء العالم فكانت احتفال اللاعبين بالفوز مع أمهاتهم وسط الملعب عقب فوزهم في كل مباراة. هذه البساطة التلقائية عن التعبير بفرحة الفوز، وانحناء اللاعبين لتقبيل رؤوس أمهاتهم كانت صورا رائعة قدمها المغاربة للعالم في الملاعب وعبر شاشات القنوات المرئية. المغرب بفريقه ومشجعيه كان بحق مفاجأة مونديال المفاجآت. ومع أن فريق المغرب فاز بالمركز الرابع على العالم، فإن مكانته في قلوب الناس وجماهير كرة القدم أعلى من ذلك المركز بكثير. أما المباراة النهائية بين الأرجنتين وفرنسا فكانت حدثا فريدا في حد ذاتها، بكل ما جاء فيها من عوامل الإثارة والتشويق، حيث أبدع فريق الأرجنتين في تقديم المهارات الفردية والتكتيكية الجماعية، وأبدع الفرنسيون في تأكيد روحهم القتالية وقدرتهم على المقاومة والسعي للفوز. هذه المباراة ستبقى خالدة على مرّ التاريخ، حيث اتفقت غالبية المعلقين الرياضيين على إنها كانت مباراة غير مسبوقة، لم تشهدها بطولة العالم لكرة القدم من قبل. ما قدمته قطر من إبداع في تنظيم بطولة كأس العالم سيتعب كل من يأتي بعدها في تنظيم البطولة. صحيح أن مونديال قطر حصل على لقب «الأول» في عدة مجالات، ومن المستحيل زحزحته من مكانته هذه، لكن المجال بعد ذلك سيكون مفتوحا لمن يريد الصعود إلى المركز الثاني؛ فالمركز الأول أصبح مسجلا بحروف من نور، وستبقى على مرّ الزمان مضيئة لا تنطفئ. كان مونديال قطر هو الأول في الشرق الأوسط، والأول في العالم العربي، والأول في دولة خليجية، والأول في دولة إسلامية، والأول الذي يشهد تفكيك استاد كامل قطعة قطعة في زمن قياسي بعد انتهاء جدول المباريات التي أقيمت فيه، والأول في تقديم طاقم حكام نسائي لإدارة مباراة في البطولة، والأول الذي تصعد فيه دولة عربية افريقية إلى نصف النهائي. كما أن احتضان جميع مباريات البطولة في مدينة واحدة حديثة كان تحديا كبيرا استطاعت قطر أن تتجاوزه بنجاح. وقدمت قطر على مدار البطولة أمثلة كثيرة تعبر عن الوفاء لمحبي كرة القدم في العالم، كان من أهمها إطلاق البث المباشر لمباراة نهائي كأس العالم من دون تشفير، فقد كانت هذه لفتة رائعة ترفع مكانة قطر وتزيدها حبا في قلوب عشاق رياضة العالم الأولى. وعلى الرغم من التحيز الأعمى لبعض أجهزة الإعلام، فإن قطر حصلت على اعتراف بتقدير دورها من رئيس الاتحاد العالمي لكرة القدم، ومن قيادات سياسية في عموم أوروبا منها الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء البريطاني، واتفق الرياضيون المحترفون الذين شاركوا في البطولة على أن مونديال قطر هو للمنافسة الرياضية، وأنهم يشاركون لهذا الغرض وليس لغيره. وقالت «وول ستريت جورنال» الأمريكية الرصينة أن مونديال قطر أثبت للعالم أن هذا البلد قادر على ابتكار مشاريع تتجاوز توقعات معظم الدول. وقالت إن حشود المشجعين الضخمة التي توافدت عليها رأت بعيونها التطور الكبير والمشاريع التي حققتها، وبينها مدينة «لوسيل» التي احتضن ملعبها مباراة نهائي كأس العالم. «لوسيل» مدينة جديدة لم تكن موجودة قبل 20 عاما، وتم البدء في إنشائها لتكون عاصمة سياحية للبلاد في إطار رؤية 2030 لتنويع مصادر الدخل والانتقال إلى مرحلة ما بعد النفط. ولهذا فإن تكلفة إنشائها التي بلغت حوالي 45 مليار دولار لم ولن تذهب هباء، فقد احتضن ملعبها الذهبي نهائي مونديال قطر التاريخي، وسيظل مكتوبا على بوابته أن «هذا الاستاد أقيم فيه نهائي مونديال قطر 2022 بين فرنسا والأرجنتين». وإلى جانب استاد لوسيل تنتشر علامات حضارية جديدة في المدينة تضم جامعة حديثة وناطحات سحاب ومرسى لليخوت الفاخرة، وتمتد فيها شوارع ذكية وأنظمة إدارة إلكترونية، وهي جميعا من علامات التنافس بين الدول الخليجية. لقد كان تنظيم المونديال دافعا قويا للتوسع في بناء قطر الجديدة على أساس معايير عالمية. وما تم بناؤه يصبح الآن رأسمالا عظيما، ماديا وبشريا، يحق لقطر أن تستثمره بفخر لخير أبنائها والمقيمين فيها.
القدس العربي