ما بعد المونديال
الحدث العظيم هو الذي يترك أثره البالغ في اللحظة وفي ما يليها، أي أنه يرتب لما بعده على ما جرى لحظة استقلال البلاد العربية من الهيمنة الاستعمارية. فالاستقلال السياسي والتاريخي للأمة العربية عن الاحتلال هو لحظة تكثف سعادة مطلقة، وما تلبث أن ترتب لما بعدها. كذلك فعل المونديال الذي انتهت فعالياته وسوف يبقى مفعوله إلى أن يستنفد كامل تداعياته ومضاعفاته ونتائجه، على اعتبار أنه الحدث الأعظم في تاريخ العرب منذ أكثر من نصف قرن من الزمن السياسي الرديء جدّا، وجاءت الرياضة في مظهر كرة القدم ومونديال نظمته دولة قطر ليؤشر إلى إمكانية الرياضة العربية أن تفعل ما عجزت عنه السياسة البليدة.
لا يقتصر التغيير والتحول الذي رافق هذا المونديال على لعبة كرة القدم فحسب، بل نال أيضا العلاقة الإنسانية الجديدة، التي صارت إليها عناصر الفرق المتنافسة والجماهير المشجعة إنْ على مدرجات الملاعب أو المعابد، وإنْ خارجها في كل الفضاءات المتاحة. وانصهار هذا الجمع أو المجموع يعطينا النسخة الأخيرة من مونديال نوعي بكل معاني ودلالات الكلمة، يصعب حصرها في هذا المقال أو كل المقالات التي ترد بأقلام كتاب ومعلقين ومحللين من كل بقاع العالم، لأن أقوى ما عرفه مونديال قطر هو امتصاصه للحظة العولمة في مجرياته كافة، خاصة على صعيد ضبط أجهزة التحكيم ونزاهة النتائج ومصداقيتها.
ولعلنا لا نغادر الحقيقة، إذا ما قلنا إن العبرة لم تعد بالنتائج في المطلق، بل آل الأمر إلى تقديم كل ما ظهر في مجريات الملاعب والتنويه بكل الفاعلين والصانعين للحدث والمرافقين له. ونأخذ على سبيل المثال، لا الحصر: الحديث عن المربع الذهبي الذي يعبر عن أن آخر أربعة فرق بقيت هي ليس أقوى أربعة فرق فحسب، التي سوف تتنافس على مَنْ سيتوج بكأس العالم، بل تعَبِّر تعبيرا بليغا عن أنها الأقوى التي تستأهل التتويج، وأن الكأس يجب فقط أن يذهب إلى فريق واحد. وعندما نتمعن في هذه الحالة ونسبر غورها نجد أن المقابلة التي جرت بين المغرب وفرنسا أنهما فازا بها معا لحضور الاحتمال، الذي يؤكد ذهاب الانتصار إلى هذا الفريق أو ذاك بالمستوى نفسه والتَّوَقع نفسه، وأن «المنهزم» لا يغضب كثيرا، وأن الإخفاق ليس نهاية العالم. فقد فرح كل عناصر الفريق المغربي مع الفريق الفرنسي دونما حسرة أو تبكيت ضمير، بل وجدنا الرئيس الفرنسي ماكرون يصل إلى غرفة الملابس ويهنئ المغاربة من لاعبين ومشرفين ومؤطرين على الأداء الرائع الذي قدموه طوال المقابلة، والاعتراف التاريخي بوصولهم إلى الدور النصف النهائي أو المربع الذهبي. الانتصار العظيم الذي تقاسمه المغاربة والفرنسيون، لم يكن ينجز لولا لعبة الرياضة التي تحولت إلى سلطة حقيقية لها آلياتها ورموزها وأنصارها من الجماهير الواعية. فالغالب في عناصر الفريقين الانتماء إلى أكثر من تراث وأكثر من ثقافة وأكثر من جنسية، أي التعبير عن أفضل ما يمكن أن يتحلّى به الإنسان زمن العولمة، لكي يستحق مكانته في هذا العالم الذي يجب أن لا ينفرد به رجال السياسة، خاصة في عالمنا العربي، حيث لم يتوانوا في انتهاك حرمة الرياضة واستغلالها البشع إلى أن جاء جيل جديد لا يعير كبير أهمية إلى الماسكين بالسلطة السياسية والسلطة العسكرية، لكي ينصهروا مع جماهيرهم في البلد وفي المهجر الذي لم يعد مهجرا، كما كنا نتصور طوال نصف قرن من التاريخ الباهت. التقدم الكبير الذي أحرزه الفريق المغربي سوف يؤثر بما هو إيجابي في الدولة المغربية ذاتها، إذا ما أحسنت استغلال كامل الزخم والكثافة العميقة والعظيمة الذي تحدثها الرياضة في معناها العالمي والجماهيري، فالبلد يحتاج فعلا إلى قوة وسلطة جديدة لا تؤازر القوة السياسية فحسب، بل تصنع مجالها الجديد الذي يجب أن يفلت مما هو «وطني» زائد عن الحاجة أو محلي يعبر عن الروح المحلية الضيقة، التي عادة ما يستفيد منها الموتورون والانتهازيون والوصوليون على ما عهدنا في نظام أو فوضى الأحزاب السياسية. ما فعل المغرب بعناصره هو قوتهم وسلطتهم التي يجب أن تستقل استقلالا إيجابيا يساهم في النظام العالمي الجديد، الذي صنعته ولا تزال الرياضة، خاصة منها كرة القدم.
التأكيد على قيمة وأهمية فعل وأثر ما أنجزه المغرب ليس له ولقَطَر فقط، بل لكل الأقطار العربية المدعوة إلى بذل الجهد والاجتهاد في مجال سلطة الرياضة كأفضل ما يوصل إلى العالمية، لأن المنظومة الرياضية سوف تشق لنفسها طريق المجتمع الجماهيري والإنساني، على ما ألحّ عليه جياني أنفانتينو رئيس الاتحادية العالمية لكرة القدم، عندما أكد على تنظيم بطولة عالمية أخرى للفرق تأخذ نظام البطولة العالمية للأمم نفسه. ويرتقب أن تحدث لحمة جديدة وتكرس بوتقة إنسانية عالمية ودولية ولشعوب العالم، سواء من جهة الرياضيين أو من ناحية الجماهير المشجِّعة أو من قبل المسيّرين والمشرفين والقائمين على السلطة الرياضية الجديدة. فالرياضة هي السلطة الجديدة التي يعوّل عليها في الانتقال السلس إلى العيش الكريم والحياة الآمنة والانفراج للجميع.
الرياضة في قاموسنا العربي تنصرف إلى الروح وترويض البدن كليهما مع الروح الرياضية التي تفيد الإنصاف والأخلاق والكياسة والسلاسة والمعقولية في التصرفات والحركات. ومن هنا فهي بعيدة كل البعد عن البُغْض السياسي والكلام الغوغائي والخطاب المخاتل العدواني الذي يغذي الكراهية والعنف والسعي المتواصل إلى دمغه ودمجه في مؤسسات الدولة خاصة منها الأمنية. فقد تطلب من عناصر الفريق المغربي ومدربهم أن يتحلوا بفضيلة وأخلاقية التواصل مع الآخر، من أجل إنجاز رائعة مونديال قطر. فكلهم يتكلم أكثر من لغة وكلهم يقيم في أكثر من مكان وجميعهم يجسد صيغة الفرنكو- مغربي أو الإسباني – المغربي أو الهولندي – المغربي.. الصيغة التي أخفق فيها الاستعمار نفسه الذي كان يزعم أنه جاء إلى البلاد العربية من أجل ترقيتهم وتربيتهم وتقديم المدنية والحضارة في آخر معانيها ومدلولاتها. وغني عن البيان أن ما سوف يحرزه المغرب له تداعياته على البلاد العربية كافة، وأن ما أنجزته دولة قَطَر تَرَك الأثر البالغ والعميق في البلاد العربية من أجل أن تعيد التفكير في إمكانياتها ومساراتها وطريقة تعاملها مع الإنسان والمجال والمصير عبر سلطة الرياضة التي تأبى الاستغلال الفاحش والنهب المنظم والانتهاك السافر. فقد تبيّن صراحة وبوضوح بَيّن أن استقلال المجالات واحترام حُرُماتها هي السبيل الأفضل إلى تحقيق التقدم والتطور والرقي في صُعُده وجوانبه ومَظَاهره كافة.
القدس العربي