في مونديال قطر: الانحياز للجمال ضد الانتاجية
الاختلاف هو سنّة العلاقات البشرية في معظم أحوالها. وكثيرا ما يتحول الاختلاف خلافا، بل شقاقا، يصعب التحكم فيه ومنعه من تسميم حياة الفرد والجماعة. ولا ينتشر الخلاف في أماكن العمل ومجالات النشاط السياسي والنقابي والمدني فحسب، بل إنه ملازم للحياة العائلية الحميمة فلا تكاد تخلو منه عائلة مهما كانت درجة العقلانية التي يتحلى بها أفرادها. ولكن رغم أن هذه السنة تكاد تجري مجرى القانون الفيزيائي، فإن في إمكان الجماعات، من العائلة إلى النادي فالحزب والمنظمة بلوغا إلى الأمة، أن تتوصل بفضل التحاور والتشاور والتفاهم إلى توحيد موقفها من شأن ما تغليبا لفضيلة الوحدة على رذيلة الفرقة والتشرذم وترجيحا للمصلحة الجماعية، حتى لو كانت آجلة غير مجنيّة الفوائد إلا بعد جيل أو أكثر.
بل العجيب أنه قد يحدث في بعض الحالات أن تجمع الإنسانية بأكملها تقريبا على أحد المواقف إجماعا عفويا لا يسبقه تحاور أو تشاور ولا تنسيق أو تمويل! من ذلك أن أكثر من 24 مليون فرنسي شاهدوا نهائي المونديال يوم 18 من هذا الشهر، لكن يمكن الجزم أنه باستثناء هذه «الحفنة» من الفرنسيين فإن بقية البشرية الكروية، أي حوالي أربعة مليارات نسمة، لم تكن تعبأ بفرنسا وأحلامها وإنما كانت تشجع الأرجنتين بكل ما يتملّكها من شغف. أي أن الإنسانية بأسرها كانت على قلب محب واحد! قلب إنساني مفرد يهفو إلى الأرجنتين وإلى فنانها النبيل ليونيل ميسي، الشاعر الآسر والقصاص الساحر بورخيس الآداب الكروية اللاتينية.
ورغم تعقد الطبيعة البشرية و«كثرة الاعوجاج في خشبها»، فإن لمثل هذا الإجماع الإنساني تفسيرا بسيطا، وهو أن الإنسانية عادة ما تفضل العدل على الظلم والجهد على الكسل. أما في الحالة المونديالية التي تتجدد كل أربعة أعوام، فالتفسير هو أن الإنسانية تفضل حرية الجمال والخيال على قيود التقليد والامتثال التي تفرضها العقلية البراغماتية، تفضل جمال اللعب الأمريكي اللاتيني الفاتن على إنتاجية ماكينة اللعب الأوروبي (ممثلة طيلة عقود بالمنتخبين الألماني والإيطالي، ومنذ بضعة أعوام بالمنتخب الفرنسي) التي تحصد الأهداف كيفما اتفق. الماكينة التي يتسم لعبها بالنشاز والبرودة المضجرة، لكنها غالبا ما تخرج في نهاية المباراة منتصرة. ولعل أفضل ما يلخص هذه المفارقة الظالمة قول البريطانيين الشهير: «ما هي كرة القدم؟ إنها لعبة يتنافس فيها 22 رجلا، وفي الختام ينتصر الألمان!».
وكما هو شأن الإنسانية مع الأرجنتين حاليا فكذلك كان شأنها مع البرازيل في ماضي العقود. إذ نذكر كلنا أننا اكتشفنا منذ نعومة أظفارنا أن كل الناس في كل البلدان تحب منتخب البرازيل.
لماذا؟ لأن البرازيليين فتنوا الإنسانية من مطلع الخمسينيات حتى مطلع السبعينيات بطريقة لعب كانت كلها جمالا في جمال، فبقيت الإنسانية ذات الفطرة السوية مقيمة على تلك المحبة وذاك الوفاء، يريد الناس للجمال أن ينتصر ويحزنون كلما انكسر. وقد بقي العالم ينتظر منذ عام 1970 عودة البرازيل لقمم المجد، لكن منتخبها لم يكن في مونديال 1974 و1978 إلا مجرد ظل لذاته الأصلية الفاتنة التي هام بها البشر غراما. ولما أتى مونديال 1982 عاود الإنسانية جارف الأمل في انتصار الجمال مجددا، حيث تألق البرازيليون، بفضل فنيات زيكو وسقراط وإيدير وفالكاو، تألقا لا سابق له ولا لاحق وأتوا في إسبانيا المعجزات.
إلا أن البشرية أصيبت بالأسى لما تغلبت إيطاليا بمكر اللعب البارد الذي لا لون له ولا طعم على المنتخب البرازيلي. كان 5 يوليو/تموز 1982 في برشلونة يوم حزن. كان يوما اقترفت فيه جريمة ضد جمال اللعب البالغ أعلى مقامات الطرب. لهذا اشتهر بأنه «اليوم الذي ماتت فيه كرة القدم».
والأصح إنه اليوم الذي اغتيلت فيه كرة القدم وانتصرت العقلية الإنتاجية والنجاعة المحاسبيّة على الفن النبيل والحسن الأصيل. ويكفي أن باولو روسي، الذي سجل أهداف الفوز الإيطالي الثلاثة، قال عام 2006 إن منتخب 1982 البرازيلي «لا ينتمي لكوكبنا الأرضي هذا، بل إنه آت من كوكب آخر. كان فيه لاعبون يحسنون تمرير الكرة حتى لو كانوا معصوبي العيون».
وبعد، فمن مباهج مونديال 2022 أن المغرب وحّد الأمة العربية قبل أن توحّد الأرجنتين بقية الإنسانية، والجامع بين الوحدتين هو تأصل الجمال في الطبيعة البشرية.
القدس العربي