الطائر الأزرق وأخواته: واقع غير مفترض
في نقاشي التلفزيوني الأخير، تناولنا قرار ألون ماسك تجريد مشاهير من «نيويورك تايمز» و«سي أن أن» من حساباتهم ثم تراجعه الفوري عن هذا القرار، الذي لم يكن بالتالي قرارا. وكان شريكي في الحوار ثم مقدم البرنامج قد طرحا للنقاش مبدأ أن «شركة خاصة يجوز لها أن تملك كل صلاحيات التصرف، من دون أن يحددها قيد أو شرط».
من بين الحجج التي كان يمكن الإدلاء بها لإثراء النقاش أن تويتر وبقية أخواتها من فيسبوك وأنستغرام وتلغرام، عرفت استحواذا يمكن وصفه بـ«استحواذ على استحواذ» أي بعبارة أخرى استحواذ الملايين من الناس على استحواذات ماسك ونظرائه، ما حطم منذ البداية الأسوار المنيعة المحيطة بـ«شركة» بمعناها الأصلي. فلم يسبق قبل الثورة الرقمية أن صار لشركات من هذا القبيل نظام تفاعل يكتسي صبغة الساحة العامة، بالمفهوم الذي حدده قدامى الإغريقيين عندما أبدعوا الـ»أغورا» كساحة هندسية، لكن أيضاً وأساساً كمساحة لحديث الشعب. غير أن المياه جرت تحت الجسور فانطفأت جذوة «الأغورا» الحماسية ليعقبها «ركن المخاطبين» في لندن الذي تمكن من حفظ ماء الوجه أمام المد الجارف لغرف الدردشة ومثيلاتها من الفضاءات الافتراضية.
فضاءات افتراضية… ما زلت انتمي إلى جيل تكيف بطريقة أو بأخرى مع «التطور التقني» هكذا كنا نتحدث قبل استبدال كلمة «تقني» بمصطلح «تكنولوجي» ثم إضافة مصطلح «رقمي». لكن هذا لا يعني أن تعبير «الواقع الافتراضي» لم يزعجني ولم يزعج جيلي، بل العكس: لقد أزعجنا كثيرا ولا يزال، كيف للواقع أن يكون افتراضيا؟ الحل الوحيد أن نتقبل أن الافتراضي صار واقعاً. وهذا هو المطلوب منا على كل حال. غير أن المنطق ليس كذلك، وكدت أقول إن «الواقع ليس كذلك» لكن البشرية فقدت الواقع كمعيار. ولأن البشرية فقدت الواقع كمعيار حدث ما حدث بعد كأس العالم، إذ تدفق سيل من الشتائم على مبابي وشواميني وكولوموني، ثلاثة لاعبين من المنتخب الفرنسي منحدرين من أصول افريقية راحوا ضحية أبشع الغرائز. والسؤال الأبدي كيف يمكن أن يحدث هذا؟
جزء من الجواب يكون بسؤال آخر: كيف تضاعفت الفرص بأن يحدث هذا؟ طرف من الجواب: لأن من مساوئ الواقع «الافتراضي» تعزيز الجبن، جبن من يتصور أن «الشاشة تحميه». هذا طرف من الجواب. والجواب الآخر أن آفة العنصرية لم تقتلع بعد، هذا فيما يفترض، كما أبرزته دراسة قيمة صدرت في بداية العام عن موقع Qatar Debate، أن «يعتنق الكثيرون فكرة إيجابية الرياضة ودورها السامي في مجابهة العنصرية والتعصب» أسوة بالتزام نلسون مانديلا، «أبرز المناضلين ضد الظلم والعنصرية في العالم» وفوق هذا، إيمانا بكلمته الشهيرة «الرياضة لها سلطة تغيير العالم» لكن هل نعيب الرياضة على ما حدث؟ هل يجوز تناول الشتائم العنصرية الموجهة للاعبين بوصفها آثارا جانبية مترتبة رأسا عن حدث رياضي وإن كان أوسعه انتشارا؟
لم تنبثق هذه الشتائم من رحم الرياضة بأي حال من الأحوال، ولا حتى عن مناسبة رياضية معينة إذا افترضنا أن أية ذريعة ستكون جديرة بتفعيل هذه الواقعة الممقوتة. الإشكال عضوي وناجم بالأحرى عن الآثار الجانبية للرأسمالية الليبرالية، فكل السؤال لماذا ترك أرباب شركات الرسائل الرقمية المختصرة المجال واسعا أمام عبارات الكراهية وتغريداتها؟ الجواب لأن ملايين من المغردين ورواد باقي المنصات يعادل ملايين من المشتركين، وملايين من المشتركين يعادل ملايين من الدولارات عائدة لأرباب هذه الشركات، التي يتعزز واقعها من الافتراضي. هذا هو قلب المشكلة، ظهور قانون غاب جديد مواز لقانون الغاب الأصلي: قانون الغاب الافتراضي الذي نشأ عن قانون الغاب فكبّره بل عملقه. في وجه هذه المعضلة، يعتزم الاتحاد الأوروبي تفعيل «قانون الخدمة الرقمية» وشعاره: «ما هو غير قانوني خارج الشبكة هو غير قانوني داخل الشبكة». ويمكن تثمين فعلا الجهود التي بذلتها مؤسسات الاتحاد في هذا المجال: تحديد مرجع وحيد للتواصل في حالة تعيين ممارسة مشبوهة، تحديد ممثل قانوني، وضع آلية لرصد المحتويات غير المتطابقة مع قوانين كل دولة على حدة، وضع نظام شكاوى يجمع التماسات معارضي قرارات إلغاء الحسابات، محاربة الإعلانات والواجهات الوهمية (dark patterns)فضلا، طبعا، عن تطوير منظومة فاعلة لمكافحة الأخبار الزائفة. حينذاك، عندما نسمع تعليلات ألون ماسك بعد اقتنائه شركة تويتر بكونه يحركها لـ«مساعدة الإنسانية» ولأن «يكون للحضارة ميدان رقمي» نتساءل، أو بالأحرى لم نعد نتساءل… لم نعد نتساءل عندما نسمع كلام صحافية قناة «سي أن أن» دوني أوسوليفن التي تتحدث عن «التأثير المروع المحتمل على الصحافيين الذين يغطون شركات ماسك أخرى» مثل إلون جيت. نفهم فوق كل اعتبار أن خيوط التلاعب اللصيقة بشخصية ماسك التي أطلقها منذ زمن بعيد لا تزال فاعلة… لكن شيئا واحدا لم ولن يتم التلاعب به وهو نفوذ ماسكها.
القدس العربي