الجهادية العالمية في ظل تعددية قطبية
برزت الجهادية العالمية في ظل دينامية العولمة وظهور نظام دولي أحادي القطبية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك المنظومة الاشتراكية. هيمنت على النظام الجديد المنظورات الرأسمالية النيوليبرالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، التي عولمت تصوراتها وفرضتها على العالم بتحديد طبيعة المخاطر والتهديدات على الأمن والسلم العالمي، وحصرها في "الإرهاب الإسلامي" الذي تجسده الجهادية العالمية. ولم تكن سياسات الحرب على الإرهاب سوى استراتيجية تعمل كغطاء للتدخل في شؤون الدول وفرض الهيمنة على العالم، وسرعان ما استثمرت الحركات الجهادية المحلية الأخطاء والكوارث التي خلقتها حروب الهيمنة وعملت على بناء وتكوين شبكة جهادية عالمية.
في حقبة الأحادية القطبية الأمريكية شكّل مصطلح "الإرهاب" كلمة مفتاحية أساسية في فهم محددات السياسة التدخلية الأمريكية في حقبة العولمة النيوليبرالية، دون وضع حد وتعريف للإرهاب ومساءلته وتحديد ماهيته، لكن المصطلح كان يشير بوضوح إلى كل من يناهض الهيمنة الأمريكية ويهدد مصالحها القومية. وفي نهاية المطاف أدى النهج الأمريكي للحرب على "الإرهاب" والذي جرى تعميمه على كافة أرجاء المعمورة إلى تنامي الجهادية العالمية التي أصبحت أكثر قوة وأوسع انتشاراً وأشد راديكالية، وباتت منقسمة بين تنظيمي "القاعدة" وتنظم الدولة، وشبكة من التنظيمات الجهادية المحلية.
ومع إرهاصات بروز نظام قطبي تعددي تحتل فيه الصين مكانة مرموقة وعودة روسيا كقوة عالمية، تبدلت الأولويات الأمريكية في تحديد شكل وطبيعة الصراعات وبنية التهديدات، وأصبحت سياسة الحرب على الإرهاب في أدنى سلم الأولويات الأمريكية، والذي يمكن التعامل معه من خلال الاستراتيجية "عبر الأفق" دون الحاجة لإرسال قوات على الأرض، وبات واضحاً للعيان أن هذه الحرب التي كان من المفترض أن تكون مفتوحة في الزمان والمكان تحت عنوان الحرب الأبدية؛ كانت تجسيداً لفلسفة نهاية التاريخ وسيادة الرأسمالية النيوليبرالية التي تقود قاطرتها الولايات المتحدة الأمريكية.
لا جدال في أن الدعم الأمريكي السخي لأوكرانيا في مواجهة الغزو الروسي هو للحيلولة دون تشكل نظام دولي تعددي، وكما فرضت الولايات المتحدة رؤيتها حول الحرب على الإرهاب، ومارست إرهابا منظماً ضد أي دولة أو مؤسسة أو شخصية تشكك في مشروعية وجدوى الحرب على الإرهاب، ومولت بسخاء جهود مكافحة الإرهاب، فإن الولايات المتحدة تحاول فرض رؤيتها حول التهديد الروسي للأمن العالمي، دون أن تنسى محاولة إقناع العالم بالخطر الأصفر الصيني.
وهكذا لم يعد الخطاب حول "الإرهاب" يتمتع بالجاذبية، بل يجري التقليل من مخاطره العالمية تحت ذريعة الممارسة النقدية، التي تتطلب الاعتراف بأنه خطر جرى تضخيمه، والإقرار بأن الحملة الدولية على الإرهاب لم تحقق سوى انتصارات تكتيكية وقتية، دون تحقيق نجاحات استراتيجية مستدامة، ودون الاعتراف بأن نهج مكافحة الإرهاب الخاطئ والكارثي أدى إلى خلق بيئة مثالية لتجذر الإرهاب، فقد استثمرت الجهادية العالمية بقيادة القاعدة هذه الأسباب وتحولت من مجموعة صغيرة في أفغانستان إلى شبكة عالمية واسعة ممتدة.
بعد مرور نحو عشرين عاماً على هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، وتحول البيئة الجيوسياسية بظهور الصين كمنافس استراتيجي، شرعت الولايات المتحدة في إعادة النظر في معنى الحروب بلا نهاية ضد الإرهاب، وفي سياق التحول ادعت أمريكا أن الإرهاب الدولي أقل خطورة بكثير مما كان يشاع، إذا قورن بالمنافسة بين الدول، وعند مقارنته بالعنف الذي يمارسه المتطرفون المحليون اليمينيون أو وباء كوفيد-19، وهو ما أفضى إلى الانسحاب من أفغانستان وما سيفضي إلى الانسحاب من الشرق الأوسط. ورغم أن الدراسات النقدية للإرهاب أكدت على مدى سنوات على ظاهرة تضخيم خطر الإرهاب على الأمن العالمي، وعلى سوء استخدام ذريعة الحرب على الإرهاب وأنه لا يعدو عن كونه عنفا سياسيا، وشددت على إرهاب الدولة، فقد أصرت الولايات المتحدة على قمع الأصوات النقدية واعتبرتها مساندة ومبررة وميسّرة للإرهاب.
شكلت سياسة الحرب على الإرهاب حجر الأساس في عقيدة الأمن القومي الأمريكي للتوسع والهيمنة في إطار نظام قطبي أحادي، ورغم ذلك تنامت الجهادية العالمية وباتت أكثر خطورة وأوسع انتشاراً. وفي ظل عودة التنافس بين الدول كمحدد للصراعات الجيوسياسية سوف تتراجع أهمية الحرب على الإرهاب واعتبار ما يسمى "الإرهاب" مجرد عنف سياسي وصراع محلي وحرب أهلية، ولذلك فإن الجهادية العالمية سوف تشهد ازدهاراً على المدى المتوسط. فالتنافس بين الدول سوف يشتد بحيث لن تمتلك رفاهية ملاحقة مخاطر الجهادية العالمية في مناطق لا تتمتع بأهمية استراتيجية وجيوسياسية كبيرة. وتبدو أفغانستان مثالاً جيداً في هذا الشأن كما هو حال منطقة الصحراء والساحل في أفريقيا، إذ لا يبدو أن أيا من القوى المتنافسة يكترث لصعود الجهادية العالمية في هذه المناطق، بل يبدو أكثر استعداداً لقبولها والحوار معها والبحث عن نقاط التقاء وتقاطعات مصالح أمنية أو اقتصادية.
على النقيض من استنتاجات مؤشرات "الإرهاب" الكمية السطحية على اختلاف نسخها، يمكن القول إن الجهادية العالمية تراقب عن كثب التحولات الجيوسياسية في البيئة الدولية الجديدة، وهي تتموضع داخل الثغرات وتستغل الفراغات التي نخلقها، فقد باتت الاستراتيجية المعتمدة في حرب الإرهاب تستند إلى المواجهة "عبر الأفق"، وهو ما ظهر من خلال الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وهو النهج الذي تبعته فرنسا بالانسحاب من مالي وإنهاء مهمة "برخان"، فكافة المؤشرات أظهرت أنّ حرب الإرهاب في كلا البلدين كانت فاشلة، وأن احتمال تغيير الوضع والانتصار لمصلحة أمريكا وفرنسا كان أشبه بالمستحيل.
أدت إرهاصات ولادة نظام دولي تعددي إلى تغيّر المقاربة الأمريكية تجاه حرب الإرهاب، حيث تخلت عن سياسة إرسال الجنود على الأرض، وتبنت استراتيجية "عبر الأفق"، التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي جو بايدن عقب قرار الانسحاب من أفغانستان، وقد لخص الاستراتيجية بالقول إن "الولايات المتحدة طورت قدرتها على مكافحة الإرهاب عبر الأفق، مما سيسمح لها بإبقاء أعينها ثابتة على أي تهديدات مباشرة لها في المنطقة، والتصرف بسرعة وحسم إذا لزم الأمر".
وللتأكيد على نجاعة الاستراتيجية الأمريكية الجديدة شهد العام الحالي عمليات "قطع رؤوس" لقادة تنظيمي القاعدة والدولة، حيث أُعلن عن مقتل زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري في 31 تموز/ يوليو الماضي، عندما أطلقت الولايات المتحدة صواريخ "هيلفاير" منزله في كابول، حيث كان يعيش لعدة أشهر، بدعم من شبكة حقاني التي تشكل أحد الفصائل المتشددة في حركة طالبان في أفغانستان. وخسر تنظيم الدولة في شباط/ فبراير الماضي قائده أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، الذي قُتل خلال غارة للقوات الخاصة الأمريكية في مجمعه السكني بقرية أطمة شمال إدلب السورية. وفي منتصف تشرين الأول/ أكتوبر الماضي قتل خليفته أبو الحسن الهاشمي القرشي في درعا على أيدي فصائل من الجيش الحر، وسرعان ما أعلن التنظيم عن تعيين قائد جديد هو "أبو الحسين الحسيني القرشي"، بينما لم يعلن تنظيم القاعدة عن اسم الزعيم الجديد الذي سيخلف الظواهري.
إن التقييمات الخاطئة لنجاح الاستراتيجية عبر الأفق من خلال نجاعة اصطياد رؤوس قيادات هامة تخفي طبيعة الفشل، فسرعان ما تأتي قيادة جديدة مع بقاء هياكل هذه التنظيمات سليمة وتعمل بطريقة لا مركزية، حيث تتمدد الجهادية العالمية دون مقاومة على الأرض.
وتوضح حالتا أفغانستان ومالي بؤس المقاربة الأمريكية والفرنسية في حرب الإرهاب، ففي أفغانستان تفرض حركة طالبان نظام الإمارة الإسلامية، وهي تحتفظ بصلات أيديولوجية وتنظيمية بتنظيم القاعدة، ويتفق صانعو السياسات في الأمم المتحدة والولايات المتحدة على أن شبكة القاعدة نمت في البلاد منذ سيطرة طالبان، كما جرى إحياء فرع القاعدة في جنوب آسيا، المعروف باسم القاعدة في شبه القارة الهندية، وهي شبكة تمتد من باكستان إلى كشمير، إضافة إلى تدفق جهاديين من الباكستانيين ومن الطاجيك والأوزبك عبر الحدود الأفغانية، لتوفر ملاذات آمنة. وتعد شبكة حقاني وهي أحد مكونات طالبان؛ عضواً في نادي الجهادية العالمية، وقد شهدت ولاية خراسان التابعة لتنظيم الدولة المنافسة للقاعدة وطالبان نمواً وازدهاراً، ومع الأزمة الاقتصادية المتفاقمة والعزلة السياسية لإمارة أفغانستان الطالبانية، تمكنت ولاية خراسان من جذب أنصار وأعضاء جدد، بل إن قيادات طالبان من المتشددين الغاضبين من نهجها باتوا أقرب إلى الانضمام إلى تنظيم الدولة، حيث صرح عبد القيوم ذاكر، المسؤول العسكري الطالباني البارز، أنه سينضم لولاية خراسان، وكذلك محمود دادالله، وكلاهما يملك شبكة واسعة من المقاتلين.
وفي مالي لا تختلف الصورة كثيراً عن أفغانستان، فقد كشف الانسحاب الفرنسي عن فشل سياسة حرب الإرهاب، حيث كان تنظيم القاعدة عند تدخل فرنسا يعاني من حالة ضعف في مالي والساحل في 2012، وكان تنظيم "أنصار الدين" التنظيم الأقوى، وهو جماعة محلية لم تكن مرتبطة بالقاعدة، وقد سيطر على مدن" تمبكتو، وكيدال، وغاو" في شمال مالي، معلنا إقامة "إمارة إسلامية"، غير أنها سقطت بتدخل عسكري فرنسي عبر عملية "سرفال"، وعندما تشكلت عملية "برخان" في 2014، وهي قوات فرنسية حلت محل "سرفال"، وأعلنت أن هدفها مكافحة الإرهاب في مالي وبوركينا فاسو وتشاد وموريتانيا والنيجر، فقد أدى النهج الفرنسي لمكافحة "الإرهاب" إلى تنامي الحركات الجهادية التي أصبحت أكثر قوة وتبنت نهجاً أشد راديكالية وباتت منقسمة بين تنظيمي "القاعدة" والدولة، وكأن "عملية برخان" الفرنسية تتبع مسار الحرب الأمريكية في أفغانستان.
عندما دشنت فرنسا عملية "برخان" في 2014 كانت القاعدة المنظّمة الوحيدة المصنفة إرهابية الموجودة على أراضي منطقة الساحل الأفريقي، وذلك عن طريق جناحها المعروف باسم "القاعدة في المغرب الإسلامي"، وسرعان ما ظهر نهج جهادي شكل طفرة في تاريخ الحركات الجهادية، حيث ظهر تنظيم الدولة في الصحراء الكبرى، ونما نفوذ تنظيم الدولة في أفريقيا منذ 2014 ، وتشكلت ستة فروع أفريقية تابعة للتنظيم في أفريقيا، بدأت الثلاثة الأولى في عام 2014 في ليبيا والجزائر ومنطقة سيناء في مصر، وبعد ذلك بعام ، تشكلت ولاية غرب أفريقيا الإسلامية ولها فروع في حوض بحيرة تشاد والساحل، ثم بايعت جماعة صغيرة في الصومال تنظيم الدولة في 2018 ، وبعد عام، في 2019، تشكلت ولاية "وسط أفريقيا" الإسلامية، في موزمبيق وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وبحلول عام 2019، شهدت 22 دولة أفريقية على الأقل نشاطاً مشتبهاً مرتبطاً بتنظيم الدولة، وهو ما أدى إلى طفرة في العنفِ الجهادي في المنطقة، في ظلِّ امتداد العنف من شمال مالي، إلى وسط الدولة، وشرقاً إلى النيجر، وجنوباً إلى بوركينا فاسو، وصولاً إلى خليج غينيا.
إحدى نتائج عملية "برخان" هي توسع تنظيم القاعدة، حيث توحدت حركات جهادية عديدة وأعلنت ولاءها عام 2017، حيث تشكَّلت "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" من تحالف جماعات: "أنصار الدين" و"جبهة تحرير ماسينا" و"تنظيم المرابطون" و"إمارة منطقة الصحراء". وهذا التمدد الجغرافي يكشف أن التنظيمات الجهادية في الساحل والصحراء تتمتع بديناميكية وقدرة على الاستقطاب في مجتمعات محلية مدججة بالصراعات القبلية المعقدة.
خلاصة القول أن الجهادية العالمية تمكنت من ترسيخ أقدامها وتوسيع نفوذها من خلال استغلال الثغرات الكامنة في صلب الاستراتيجيات الكارثية لساسة الحرب على الإرهاب في حقبة الأحادية القطبية الأمريكية، والتي استخدمت "الإرهاب" ذريعة للهيمنة والسيطرة والتفرد في سياق مفهوم الحرب الأبدية كتعبير عن نهاية التاريخ وسيادة العولمة الرأسمالية النيوليبرالية الأمريكية.
ومع إرهاصات نهاية عصر الأحادية القطبية وبداية زمن التعددية القطبية، فإن الجهادية العالمية تراقب التحولات في البيئة الدولية وصعود الصين، وتتابع اشتداد المنافسة الجيوسياسية، منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية التي انخرطت فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها من الأوروبيين. وإذا كان عصر الأحادية القطبية ساهم بصعود الجهادية العالمية، فإن زمن التعددية القطبية يشير إلى تمكين الجهادية العالمية في مناطق بعيدة عن حلبة التنافس والصراع الدولي، وتكشف الأوضاع في أفغانستان ومالي عن شكل الجهادية العالمية المستقبلي، حيث عودة أولوية الجهاد المحلي كعدو قريب، لكنها ليست سوى مرحلة للعودة مرة أخرى إلى الجهاد العالمي كعدو بعيد، وفي الطريق مرة أخرى إلى اندماج البعدين.
عربي 21