قراءة في مدلولات صعود نتنياهو مجددا
في الوقت الذي تزداد فيه حكومات كيان الاحتلال تطرفا وعدوانية، يتبادر سؤال محيّر إلى الذهن: ما مغزى هذا التهافت لخطب ودّ هذه الحكومات؟ ولماذا يهرع بعض الحكومات العربية للتطبيع معه؟ ولماذا تتلاشى تدريجيا مقولات التضامن العربي ورفض الاحتلال ودعم حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره؟ وفي المقابل يواجه الكيان الإسرائيلي الحكومات العربية بالمزيد من التهكم والازدراء. فما وصول بنيامين نتنياهو إلى رئاسة وزراء الكيان للمرة السادسة إلا تأكيد لهذا المنحى اليميني المتطرف. فمن بين أعضاء حكومته الجديدة عدد من المتطرفين اليمينيين الذين يرفضون الاعتراف بأرض اسمها فلسطين أو شعب ينسب إليها، ويتوقع أن يكون هناك استهداف أكبر للفلسطينيين خصوصا في مجال حقهم لإقامة دولة مستقلة على أراضيهم، ذات سيادة كاملة وقرار مستقل. ويبدو نتنياهو أكثر تطرفا مما كان عليه، وهو الذي عرف بتطرفه وأفكاره العنصرية التي لا يساوم عليها. فبعد 18 شهرًا من إقالته من منصبه كرئيس للوزراء، ومواجهة تهم بالفساد والابتعاد عن حلفائه السابقين، عاد إلى السلطة على رأس أكثر الحكومات يمينية في تاريخ إسرائيل. وبعد فوزه في الانتخابات في نوفمبر الماضي أبرم حزب الليكود اتفاقات مؤقتة مع جميع الجماعات اليمينية المتطرفة الخمس التي قام بتشكيل الحكومة معها. ويرى اليمينيون المتطرفون أنها فرصة لا تتكرر إلا مرة واحدة في كل جيل لإعادة تشكيل إسرائيل في صورتها الدينية المحافظة للغاية. ولن يؤثر على مسارها خطاب الليبراليين الأقل تشددا.
في هذه الاجواء صرّح بيني غانتس، وزير دفاع الكيان أن حكومته ستشن عدوانا على إيران في غضون عام او عامين لضرب مفاعلاتها النووية. وقال غانتس في كلمة للطلاب المتخرجين في سلاح الجو «في غضون عامين أو ثلاثة أعوام، ربما تكونون تجتازون السماء باتجاه الشرق وتشاركون في هجوم على مواقع نووية في إيران». ومن المؤكد أن هناك من الحكومات العربية من يدعم هذا التوجه، بل ربما ساهم في تحريض كيان الاحتلال ضد إيران. يحدث هذا في الوقت الذي يتغاضى العالم ومعه الحكومات العربية عن امتلاك الكيان الإسرائيلي مشروعا نوويا وأكثر من 200 رأس نووية.
وفي الأسبوع الأول من ديسمبر دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة إسرائيل إلى ضرورة التخلي عن أسلحتها النووية، بأغلبية 149 صوتاً، وذلك بحسب صحيفة جيروساليم بوست. ولم يكن هذا التصويت الأول لصالح القرار ففي أكتوبر الماضي صوتت 152 من الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة على القرار نفسه. كما دعا القرار إسرائيل إلى الانضمام إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وإخضاع جميع منشآتها النووية للضمانات الدولية الشاملة للطاقة الذرية. ولكن الحكومات العربية لم تهرع للاستفادة من هذه الدعوة لممارسة ضغوط حقيقية على تل أبيب، وبدلا من ذلك هرع بعضها لتكريس التطبيع معها بتبادل الزيارات وعقد الصفقات التجارية والثقافية. فحكومة البحرين استقبلت مؤخرا وفدا طلابيا إسرائيليا لكي يختلط مع طلاب البحرين في خطوة تطبيعية مقيتة تهدف لتعميق التطبيع الثقافي مع كيان يعادي الأمة ويحرّض ضدها ويمارس جرائم القتل اليومية بحق أهل فلسطين. ويمكن اعتبار تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي بعزم حكومته على استهداف إيران باكورة سيئة لعمل حكومة نتنياهو السادسة، برغم ما عرف عنه من سياسات عدوانية منذ أن أصبح رئيسا لوزراء الكيان للمرة الأولى في 1996، ومن الصعب اعتبار هذا التصريح خبطة إعلامية او كلاما عابرا. فهو تعبير عن سياسة إسرائيلية ثابتة تهدف لمنع الدول العربية والإسلامية من امتلاك السلاح النووي. ويجدر هنا استحضار العدوان الإسرائيلي على مفاعل «أوسيراك» العراقي في العام 1982، خلال الحرب العراقية – الإيرانية آنذاك. ومنذ ذلك الوقت لم تقم للمشروع النووي العراقي قائمة، بينما وسعت «إسرائيل» مشروعها النووي بدون توقف وتجاهلت كافة الدعوات للانضمام للوكالة الدولية للطاقة الذرية وجعل الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل.
من المؤكد أن إيران ستأخذ ذلك التصريح مأخذ الجد، فهي تعلم أن العالم الغربي يستهدفها وكافة مشاريعها بسبب سياستها الرافضة للاعتراف بالكيان الإسرائيلي. وتعتبر إيران ذلك خطا أحمر، منذ انتصار ثورتها في العام 1979. يومها أعلن الامام الخميني موقفه الواضح الذي طالما ردده قبل ذلك بعدم الاعتراف بوجود إسرائيل وأن فلسطين يجب أن تتحرر من الاحتلال. وعلى مدى اكثر من اربعة عقود دفعت الجمهورية الإسلامية ثمنا باهظا لتلك السياسة، فتعرضت لحصار متواصل منعها من استيراد السلع الأساسية خصوصا في مجال التكنولوجيا، وعرّضها للاستهداف خصوصا في مجال مشروعها النووي الذي كان قد بدأ منذ الخمسينات. وفرضت عليها حزمة من العقوبات الغربية بلغت حد منعها من استخدام النظام المصرفي الدولي. وبقيت العلاقات مع الكيان الإسرائيلي بشكل خاص تتسم بالعداء، حيث يرى محتلو فلسطين أن إيران وسياساتها تمثل لهم «خطرا وجوديا»، خصوصا بدعمها المجموعات المناوئة لـ «إسرائيل». وقد استهدفت القوات الإسرائيلية مجموعات عديدة في سوريا والعراق، بدون أن يكون هناك موقف دولي شاجب لتلك الاعتداءات غير القانونية التي اخترقت سيادة البلدان المستهدفة. كما استهدفت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية علماء إيرانيين واغتالت عددا منهم.
أيا كان الأمر فإن تشكيل حكومة برئاسة بنيامين نتنياهو للمرة السادسة مؤشر للتوجهات الإسرائيلية ليس تجاه فلسطين وأهلها فحسب، بل إزاء المنطقة كلها. فالاحتلال يزداد شعورا بالتهديد الأمني وربما الوجودي برغم مرور ثلاثة ارباع القرن على محنة فلسطين. فحتى الآن لم يستطع ضمان أمن دولته التي ما تزال مرفوضة من قبل الشعوب العربية. وازداد ذلك وضوحا خلال الدورة الأخيرة لـ «كأس العالم» التي أقيمت في دولة قطر، حيث احتل علم فلسطين موقعا محوريا، فارتداه الرياضيون، ورفعه المشاهدون في ملاعب الكرة وفي الشوارع العامة. ولكن المفاجأة التي صعقت الإعلاميين الإسرائيليين ذلك الرفض المطلق من الشباب العربي الذي تواجد في قطر لمتابعة «كأس العالم». فقد رفض الأشخاص الذين طلبت منهم وسائل الإعلام الإسرائيلية الدخول في أي حوار معها، وذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الصادرة في تل أبيب ، يوم الأحد 27 نوفمبر أن المراسلين الرياضيين الإسرائيليين واجهوا العديد من الحوادث العدائية أثناء تغطية فعاليات كأس العالم لكرة القدم في قطر. وكتبت الصحيفة الإسرائيلية «نشعر بالكراهية وأننا محاطون بمشاعر العدائية وعدم الرغبة في وجودنا».
ماذا تعني تلك الحقائق: أولها أن الوجدان العربي يكاد يكون متفقا على رفض الاحتلال إذا سنحت له الفرصة للتعبير عن نفسه بحرية. ثانيها: أن ثلاثة أرباع القرن من الاحتلال لم يحقق للكيان أمنه السياسي ولم يستطع أن يطرح نفسه كوجود طبيعي في الجسد العربي والإسلامي، وأن ما لدى «إسرائيل» من أساليب أمن متطورة فشلت في ضمان أمنها أو كسر شوكة الشعب الذي يناهضها. ثالثها: أن الكيان يزداد تطرفا بشكل مضطرد الأمر الذي من شأنه أن يساهم في محاصرة الكيان وتعميق رفضه حتى من قبل بعض داعميه. رابعها: أن فقدان الشعور بالأمن عامل مهم يدفع هذا الكيان للتوجه بوتيرة أكبر نحو التطرف، وهذا جانب من تفسير صعود اليمين المتطرف إلى السلطة، وتكرر فوز نتنياهو المعروف منذ بداية عهده السياسي قبل 36 عاما بالانتخابات والوصول إلى رئاسة الوزراء ست مرات. خامسها: أن المهرولين للتطبيع سيجدون أنفسهم في نفق مسدود، خصوصا مع توجه الاحتلال نحو المزيد من التطرف والتغطرس والإصرار على التفوق العسكري وإصراره على التصدي لأي طرف عربي أو إسلامي لامتلاك التكنولوجيا النووية. سادسها: أن التهديد الإسرائيلي باستهداف إيران عسكريا تصعيد خطير قد يؤدي لحرب إقليمية شاملة. سابعها: أن استمرار اضطهاد الشعب الفلسطيني، واستهداف شبابه وشاباته بنمط يومي عامل آخر من شأنه المساهمة في بلورة موقف شعبي عربي إسلامي أكثر حماسا للتصدي للاحتلال وأقل رغبة في الاعتراف به او التطبيع معه.
القدس العربي