قروض ونفاد سيولة في الأفق الأميركي
قبيل أيام من اصطدام الولايات المتحدة بالحد الفني المفروض على حجم الديون التي يمكن للبلاد إصدارها، يحذر محللون في وول ستريت وآخرون سياسيون من أن هذه القضية التي تُشكل مصدراً أزلياً للصدامات الخطيرة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، قد تتحول إلى كارثة محققة عام 2023.
يعتمد كبار المستثمرين والخبراء الاقتصاديين لدى المصارف على نماذج مالية؛ لتوقع متى تنفد السيولة النقدية لدى الولايات المتحدة، التي تقترض المال لسداد فواتيرها القائمة. ويحاولون تقييم ما يمكن أن يعنيه عجز الحكومة عن سداد المال اللازم لبعض حاملي سنداتها، وتعثُّر الدولة في سداد ديونها. ويسعى هؤلاء المستثمرون والمحللون لإيجاد سبل لتقليص المخاطر بأقصى قدر ممكن، وتحقيق أكبر استفادة ممكنة من الفرص التي ربما تحملها الفوضى في طياتها.
وقد أصبحت الحاجة إلى التخطيط لخرق محتمل للحد الأقصى للديْن، أكثر إلحاحاً، الأسبوع الماضي، عندما حذّرت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت إل. يلين، الكونغرس من أن الولايات المتحدة ستبلغ الحد الأقصى للاقتراض، عند هذه النقطة، ستبدأ وزارة الخزانة في الاستعانة بـ«إجراءات غير عادية»، في محاولة للبقاء دون الحد الأقصى المسموح به لأطول فترة ممكنة؛ لكن هذه الخيارات قد تُستنفد بحلول يونيو (حزيران).
من جهته، يفرض الكونغرس حداً على حجم الديون التي يمكن للبلاد إصدارها، ويتطلب رفع سقف هذه الكمية موافقة أغلبية بسيطة داخل مجلسي النواب والشيوخ. يقف هذا السقف حالياً عند مستوى 31.4 تريليون دولار، ويتعين تعديله للسماح للولايات المتحدة بالاقتراض لسداد التزاماتها القائمة بالفعل، مثل تمويل برامج شبكة الحماية الاجتماعية، وفوائد الدين الوطني ورواتب الجنود.
بمرور السنوات، تحوّل التشاحن حول رفع سقف الاقتراض إلى سمة ثابتة في المشهد الأميركي، وتأتي المشاحنات هذا العام في ظروف شديدة التعقيد. من جهتهم، يسيطر الجمهوريون على مجلس النواب بأغلبية ضئيلة، ونجح فصيل صغير، لكنه مؤثر، داخل الحزب في فرض تغييرات على القواعد الحاكمة للنقاشات التشريعية. وأوضح أفراد هذا الفصيل رغبتهم في إقرار تخفيضات عميقة في الإنفاق مقابل رفع سقف الدين. ومن المحتمل أن تُنهي القوة التي يسعون بها لفرض موقفهم، الجولة الحالية من المفاوضات بكارثة.
وكتب محللون من «بنك أوف أميركا» مذكرة إلى عملاء، هذا الأسبوع، بخصوص أنه «من المحتمل» أن يحدث تخلُّف عن السداد أواخر الصيف أو أوائل الخريف، بينما وصفت مؤسسة «غولدمان ساكس» إمكانية ألا تتمكن الحكومة من سداد التزاماتها المالية، بأنها «مخاطرة أكبر» عن أي وقت مضى منذ عام 2011. عندما وقفت البلاد على حافة الانهيار فيما يخص هذه المسألة من قبلُ، جرى تخفيض تصنيفها الائتماني، وأجبرت التقلبات الجامحة في السوق المشرعين على التراجع.
في واشنطن، لا يتحدث الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة علانية بخصوص ما يمكن أن يفعلانه حال حدوث تعثُّر صريح عن سداد الديون هذه المرة، ويعود أحد الأسباب وراء ذلك إلى أن مجرد التلميح إلى أنهما سيوفران طوق النجاة للسياسيين المتحاربين ربما يترك لدى المشرعين حافزاً أقل للتوصل إلى اتفاق.
ومع ذلك، تبقى أمامهما سلسلة من الخيارات ـ وإن كانت سيئة ـ للتخفيف من حدة الكارثة إذا ما دفعت حالة التأزم السياسي الأمة نحو حافة العجز عن سداد الالتزامات المالية.
في الواقع، من الصعب التكهن بكيف ستأتي ردود أفعال الأسواق المالية في هذه الحالة، نظراً لأنه من غير المؤكد توقيت حدوث العجز عن السداد، ولأن الكثير من المستثمرين ينتظرون ويراقبون ما سيحدث لاحقاً في واشنطن.
إلا أن مسؤولين حكوميين سابقين، ومراقبين حذرين في وول ستريت، يحذرون من أن التداعيات قد تكون خطيرة. لقد أصبحت الأسواق أكثر ضخامة وأشد تعقيداً منذ عام 2011، ويمكن أن يؤدي العجز الصريح عن سداد الالتزامات المالية إلى عمليات بيع جماعي، الأمر الذي سيعوق عمل المؤسسات المالية. وفي الوقت الذي وضعت فيه الحكومة خططاً لمواجهة العجز عن سداد الالتزامات المالية، قال مسؤولون سابقون إنه ليس ثمة خيار مضمون لتجنب الكارثة.
ما سقف الدين؟ سقف الدين، ويطلق عليه كذلك حد الدين، يمثل الحد الأقصى على مجمل كمية الأموال التي يُخول إلى الحكومة الفيدرالية اقتراضها من خلال سندات الخزانة الأميركية، مثل سندات الادخار، لإنجاز التزاماتها المالية. ونظراً لأن الولايات المتحدة تواجه عجزاً بالموازنة، فإنه يتعين عليها اقتراض كميات ضخمة من المال لسداد فواتيرها.
متى يُخرق حد الدين؟ مرر الكونغرس، في ديسمبر (كانون الأول) 2021، تشريعاً لرفع سقف الدين بمقدار 2.5 تريليون دولار، وتجنب خطر العجز عن سداد الالتزامات المالية حتى عام 2023.
في 13 يناير (كانون الثاني)، حذرت وزيرة الخزانة جانيت إل. يلين، من أنها تتوقع أن تبلغ الولايات المتحدة سقف الدين في 19 يناير، وأنه من دون رفع السقف، من الممكن أن تستنفد سلطاتها في إرجاء عجز الولايات المتحدة عن سداد التزاماتها بحلول مطلع يونيو.
لماذا هناك سقف للاقتراض الأميركي؟ ينص الدستور على ضرورة أن يقر الكونغرس الاقتراض. وجرى إقرار الحد الأقصى للديون مطلع القرن العشرين، بحيث لن تحتاج وزارة الخزانة إلى طلب تصريح لها في كل مرة تحتاج لإصدار ديون لسداد التزاماتها.
ماذا يحدث حال وصول الدين حده الأقصى؟ من شأن خرق سقف الدين إعلان عجز الولايات المتحدة عن سداد ديونها للمرة الأولى في تاريخها، الأمر الذي سيخلق حالة من الفوضى المالية على مستوى الاقتصاد المالي. ومن شأن ذلك أيضاً إجبار المسؤولين الأميركيين للاختيار بين الاستمرار في تقديم المساعدات، مثل أموال الأمن الاجتماعي، وسداد الفوائد على ديون البلاد.
في هذا الصدد، قال جاك لو، وزير الخزانة الأسبق في عهد إدارة أوباما: «ليس هناك خطة جيدة، هذا وقت أشد خطورة من أي وقت مضى».
ورغم المخاطر، ربما يكون من الضروري حدوث بعض الألم المالي لإجبار المشرعين للوصول إلى حل، حسبما ذكر داليب سنغ، المسؤول السابق بوزارة الخزانة والاحتياطي الفيدرالي والبيت الأبيض، ويعمل حالياً خبيراً اقتصادياً رفيعاً لدى مؤسسة «بي جي آي إم فيكسيد إنكوم».
وقال: «تملك وزارة الخزانة والاحتياطي الفيدرالي خيارات، لكنّ أياً منها لن يتمكن من تجاوز اختبار المصداقية».
إلا أن المستثمرين ربما يبقون راضين عن الأمر الواقع لفترة طويلة للغاية، حسبما استطرد مارك زاندي، كبير الخبراء الاقتصاديين لدى «موديز أناليتكس»، الذراع التحليلية لوكالة التصنيف الائتماني.
وقال: «ربما سيبقى رد الفعل خافتاً حتى يفوت الأوان».
الشرق الاوسط +«نيويورك تايمز»