الأردن والاستثمار: «محاولة العبث المستمرة»
دخل في أحد الأيام عضو في البرلمان إلى حرم مصنع ضخم في منطقته الانتخابية. ضرب مرافقون للنائب حارس البوابة الأمني ثم اقتحم سعادته مقر المصنع الإداري، وطالب بإحضار ملفات التعيين للعاملات، وبدأ بمناقشة المدير المناوب بخصوص رواتب العاملات ثم أمر بإحضار العاملات أنفسهن، فيما كانت دورية شرطة قد وصلتها إخبارية عن ما حصل لكنها لم تتصرف. آنذاك قال النائب لجماهير الوطن إنه قرر مراقبة مبدأ المسؤولية الاجتماعية، ومعياره مصلحة مواطنيه الناخبين مع أن أحكام الدستور تتيح له تحت القبة الحصول على كل التعاقدات والوثائق والمعلومات بـ10 طرق على الأقل.
طبعا ذلك المشهد واحد من مشاهد مماثلة التي أعقبت كبسة الزر الشهيرة تحت عنوان منطق هندسة الانتخابات أو تحت فلسفة تغيير الوجوه بوجود 90 نائبا طازجا تماما في المشهد. على كل حال يعرف القارئ بقية تأثير القصة على المصنع والصناعيين. لكن المهم في استحضار هذه الحالة هو ما أثاره دولة الصديق رئيس الوزراء الدكتور بشر الخصاونة وهو يطرح خطة لجذب استثمارات بقيمة 40 ملياردولار خلال 10 سنوات.
قالت الحكومة إنها تسعى لذلك ونحن لا نشكك بمساعيها ولا نواياها أبدا.
لكن نختصر كل الطرق لنقول إننا نشكك في الإجراءات والقرارات البسيطة التي يجب اتخاذها عندما يتعلق الأمر بالاستثمار والمستثمرين، إما في جزئية جذبهم ثم «لعن سلسفيل أبوهم» أو في جزئية طردهم حتى قبل جذبهم.
على كل حال يعرف الخبراء قبلنا جميعا أن تلك الاستثمارات التي تعدنا بها الحكومة هدفها خلق وظائف عمل، ولا يمكن إنجاز المهمة إلا عبر القطاع الخاص. والقطاع الخاص طبعا يريد أن يربح وأي رواية تقنع المستثمرين بأن فرصتهم في الأردن أكثر من غيره ومضمونة بشكل أكبر من الصعب بيعها أو ترويجها بدون إجراءات نعلم جميعا أن صاحب القرار يستطيع اتخاذها أمس وليس غدا وبكل بساطة.
نتحدث هنا عن إجراءات وقرارات إدارية فقط لا أكثر ولا أقل تقنع المستثمر، ولا تحتاج لتأملات ولا لتشريعات ضخمة ولا للوائح تعليمات بمئات الصفحات بحيث توجه الحكومة رسالة للمستثمرين وللرأي العام قوامها أنها لم تحسم الأمور بعد في الكثير من التفصيلات التي تهم رأس المال والقطاع الخاص.
بهذا المعنى غير معقول أن نقرأ أكثر من 400 صفحة من التعليمات والأنظمة الملحقة بقانون البيئة الاستثمارية ونطالب المستثمر بحفظها والالتزام بها، علما بأن بعضها عصي عن الفهم أو مطاط ومرن وحمال أوجه، ويكرس القناعة بتعددية المرجعيات وكثرة جهات الترخيص، فيما ينتقل العالم برمته اليوم بما في ذلك الدول المجاورة التي كنا نتغنى بأننا علمناها ودربناها من دائرة الحكومة الإلكترونية التي لم ننجزها بعد الى منسوب الحكومة الذكية.
لا بد من توقف الادعاءات والمزاعم والإجابة قبل مساءلة المستثمرين أو المزاودة عليهم على سؤالين هما الأهم.
السؤال: هل تدرك دوائر صناعة القرار بأن المطلوب منها لجذب الاستثمار هو تغيير في المنظومة برمتها وليس في جزء إداري منثور هنا أو هناك؟
السؤال الثاني: ألم تدرك بعد دوائر صناعة القرار بأن الدنيا تحولت وتغيرت وبأن تأسيس مستقبل للأردنيين دولة وشعبا يتطلب تجاوز حساسيات الماضي وترديد أغنية مصرية مشهورة تقول «الماضي ده كله جراح».
نقولها باختصار ومن الآخر أي حديث عن جذب الاستثمارات لا يصلح مع استمرار فعاليات الهندسة في الانتخابات والبرلمان وتحديث المنظومة السياسية والتمكين الاقتصادي. ولا يصلح مع استمرار بقاء سؤال الأصل والمنبت في محاضر التوظيف، ولا مع استمرار السكوت عن ما يسمى بالحقوق المكتسبة لفئات محددة في المجتمع في المناطق التي يوجد فيها مصانع واستثمارات، لأن مبدأ المسؤولية الاجتماعية يمكن تطبيقه باحترام وبشكل متحضر ومنتج قياسا بتسليم بعض المواطنين الحق في استفزاز استثمار ما.
صعب جدا تخيل أي سيناريو لجذب استثمارات حقيقية فيما الدولة لا تزال لم تحدد ما إذا كانت تريد البقاء في القطاع الخاص أم ستغادره، وفيما يتقلب ويتغير تشريع بسبب اجتماع على منسف في مزرعة، أو فيما يجلس مستثمر ما في القضاء عالقا خمس سنوات أو فيما ينظر موظف عمومي صغير لأي مستثمر بارتياب وازدراء وتستمر قوائم أصحاب المال والمستثمرين الذين لا يحق لهم تسجيل أولادهم في مدارس عمان.
معيقات الاستثمار ليست سرا نوويا وكل من يتشدق في الحديث عن معادلة استثمارية جديدة يعرف بأن ملفات الاستثمار ينبغي أن تدار سياسيا واقتصاديا وليس أمنيا، كما يعلم مسبقا أيضا بأن من يجذب الاستثمار الدولة وليس الناس، وأن دوائر القرار سكتت على محاولات العبث المستمرة في تطبيقات الحكومة الإلكترونية حتى الآن دون أن تتدخل. بعض المعاملات كان يمكن إنجازها قبل الحكومة الإلكترونية بشرب فنجان قهوة مع وسيط فيها تحتاج ببعض المؤسسات اليوم رغم أنها إلكترونية يا قوم إلى شهرين من الانتظار والمراجعات.
القدس العربي