بين الغرب وروسيا في عصر الاستعمار
رغم أن كلمة “استعمار” هي من الكلمات المختلف عليها اصطلاحًا، إلا أنها أحيانًا قد تخدم المعنى المراد، لكونها وكلمة “مستعمرة” اشتقاقًا من الأصل نفسه، و”المستعمرات” هي الأراضي التي يستوطنها غرباء محتلون بالقوة العسكرية، على اختلافهم واختلاف أساليبهم وغاياتهم. لكن سيقول قائل على هذا المبدأ، إذن عصر الاستعمار يكون قد ولى بانتهاء تلك المستوطنات، خلا أراضينا الفلسطينية المحتلة من المستوطنين الصهاينة، وهنا يأتي السؤال من الواقع:
هل صار هذا العالم ودوله البادية على الخرائط بحدودها السياسية حُرًّا من التبعية الإمبريالية مع كل شعارات الاستقلال التي يرفعها ! أم أن المساحة الجغرافية الوحيدة المحتلة على الخريطة بالطريقة العسكرية القديمة التي عفا عليها الزمن، هي الأقرب للتحرر من براثن الإمبريالية العالمية، وما دونها يرزح تحت وطأة قانون الغرب المفروض على هذا العالم منذ قرون !؟
الواقع المعاصر
والإجابة نراها الآن رؤيا العين في واقعنا المعاصر، ويثبتها مرارًا استمرار النهج نفسه والممارسات الاستعمارية القديمة برعاية غربية في أراضينا المحتلة تحت سمع ونظر الغرب والعالم دون أن ينبس ببنت شفة، إلا إذا تعرض المعتدون أنفسهم للخطر جراء الدفاع الشرعي عن النفس الذي يكفله ما يُسمى بـ “القانون الدولي”، فتدور آلة الإعلام الغربي الجبارة لتكيف الأجواء وتطوع الوقائع والحقائق لصالحها، ومن ثم يدور في فلكها العالم من شرقه إلى غربه.
لكن قد تصيبنا الدهشة إذا نظرنا مجرد نظرة عابرة على التاريخ، لنرى أن هذا كله ليس وليد عصرنا، بل تولد على مر قرون العصر الحديث بيد الغرب نفسه منذ أن حل عصر المركزية الأوروبية الذي امتلكت فيه قوى الاستعمار الحديثة زمام السيطرة، وفرضت قوانينها جنبًا إلى جنب مع تفشي وبائها الاستعماري في كل أنحاء الأرض.
فها هي الثورة الفرنسية، ملهمة العالم “الحُر” بشعارها الشهير “حرية، مساواة، إخاء”، تنطلق وهي ترفع تلك الشعارات باستخدام القانون الغربي نفسه لاستعمار أوروبا نفسها، واستعباد بقية أمم الأرض، وفي ظل شعاراتها الرنانة طفقت ترتكب المذابح وتنكل بمن تطاله أيديها حتى تسلبه كل ما يملك، والأمثلة المؤكدة التي تستعصي على الحصر تنوء بها الكُتب والوثائق.
الحربان العالميتان
هكذا كان على الغرب بعد الحربين العالميتين في القرن المنصرم، أن يغير من مذهبه الاستعماري ظاهريًّا على الأقل حتى يتوافق شكليًّا مع أطره الجديدة التي وضعها لتنظيم هذا العالم، من معايير ومنظمات وهيئات دولية تستظل بمظلة أممية واحدة وتتخذ مظهرًا متحضرًا حديثًا يقوم على المساواة وحقوق الإنسان، وفي واقع الأمر لا تعدو أن تكون واجهة للتوجه نفسه الذي ظهر منذ مستهل العصر الحديث، لكن بشكله السافر على يد إسبانيا والبرتغال أولاً ثم القوتين الأشهر والأكثر توغلاً وتأثيرًا، بريطانيا وفرنسا.
والغريب أنه داخل هذا الإطار الأممي الحقوقي نفسه الذي نسجه الغرب بعد الحربين المذكورتين، ادعت قوى التحالف التي أمسكت بزمام العالم أنها مسؤولة عن الشعوب التي وصفتها أنها “غير متحضرة” أو لاتزال بعد في طور النضوج، وفرضت عليها ما سُمي بـ”الانتداب” لتُحَوِّل استعمارها إلى شكل آخر من أشكال التبعية التي ظلت موروثة إلى يومنا هذا بمقومات وذرائع أخرى حسب ما تمليه أوضاعها ومصالحها.
ويتمثل أكبر الأدلة على ذلك في الكيان الصهيوني الذي زرعته ضمن أراضينا قبل أن تخرج منها، لتورث ليس فقط رعايته بل الدفاع المستميت عنه، للمجتمع الدولي الذي اصطنعته بمعاييرها وقوانينها الخاصة، ويظل هذا المجتمع يقوم بهذه المهمة بكفاءة منقطعة النظير حتى يومنا الحاضر، وكأنها مهمة مقدسة، ما يثير تساؤلات أخرى حول ماهية تلك المؤسسات الدولية التي تشرعن كل ما جاء به الاستعمار القديم، لكن بطريقتها التي توحي باستخدام القانون العادل والمساواة بين الدول.
الأهداف والممارسات
أما روسيا، فحربها الدائرة الآن على أوكرانيا تكاد تتطابق مع مسارها التاريخي وتوجهها الذي يختلف مع الغرب بوجه عام بسبب العداء الأيديولوجي، لكنه يتقابل معه في الأهداف والممارسات.
لقد واكبت روسيا ذلك التحول الكبير والانطلاقة التي شهدتها الإمبريالية الغربية في منتصف القرن الثامن عشر تحديدًا، بناء على اكتشافات العالم الجديد وأراضي ما وراء البحار التي بدأها الغرب منذ أواخر القرن الخامس عشر، فانطلقت منفردة تستكشف لكن في إطار محيطها، بمعنى أدق ظلت محافظة على ذلك الطابع الإمبريالي التقليدي لإمبراطوريات العالم الوسيط، بالتوسع في الأراضي والبحار المتصلة بها، عكس الغرب الذي انطلق في كل حدب وصوب دون قيد أو شرط؛ ويرجع ذلك على الأرجح لمساحتها الشاسعة التي تكاد تبتلع الشمال الآسيوي لتصل المحيط شرقًا بالأراضي الأوروبية غربًا، وهذا في حد ذاته جعلها غنية عن البحث عن أراض جديدة من أجل الاستعمار، بل بحثها في الأساس كان عن الأراضي والبحار التي تهيئ لها استغلال هذه المساحة الممتدة وتجعلها استراتيجية من حيث المكانة الدولية على سبيل المثال أو السيطرة على الطرق التجارية.
السيطرة على القوقاز
وعليه فقد انطلقت للسيطرة على القوقاز وأواسط آسيا وقارعت العثمانيين والبولنديين والسويديين وغيرهم من أجل النفاذ بقدر الإمكان إلى الغرب، سواء في البر القاري لأوروبا أو عبر المسطحات المائية، وفي الوقت نفسه بدأت تتجه ناحية الشرق لاستكشاف المحيط كما فعلت أوروبا من جهة الغرب، وذلك في عصر بطرس الأكبر، الذي اهتم أيما اهتمام بالتوسع والامتداد الإمبريالي. وبالفعل وصل المستكشفون الروس إلى أمريكا الشمالية في العقد الرابع من القرن الثامن عشر، وظلت عملية التوسع والسيطرة تسير طوال القرن، ليتمكنوا خلالها من السيطرة على ألاسكا وأجزاء واسعة من الساحل الشمالي والغربي للقارة، فيما سُمي بـ”أمريكا الروسية”، وبدأوا في التنافس الإمبريالي مع القوى الغربية التي سبقتها إلى هناك.
وقد أثبتت بعد ذلك تجارة الفِراء والنزاعات التي أثارتها هناك، بما لا يدع مجالا للشك، الغرض الرئيسي من التوسع الذي سعى إليه الروس، فهو لا يختلف كثيرًا في النهاية عن الأغراض التوسعية للغرب؛ إذ لم يكتف الروس بالسيطرة من أجل التجارة بل استغلوا احتكار تجارة الفِراء كأداة إمبريالية لترويس سكان ألاسكا الأصليين وإرسال البعثات الدينية من المبشرين الأرثوذكس لتبشير الأمريكيين الأصليين. إلا أن القرن التاسع عشر شهد تحولات جذرية في التجارة الروسية المرتبطة بالأمريكيتين هذا فضلاً عن التحولات السياسية من ثورات شهدتها أمريكا وتداعيات حرب القرم التي هُزم فيها الروس أمام القوى الغربية في شرق أوروبا وشمال البحر الأسود، ما أثر بالتالي على الوجود الروسي الاستيطاني في أمريكا بوجه عام، وهذا ما دفع الروس في النهاية إلى بيع ألاسكا إلى الولايات المتحدة عام 1867م مقابل 7.2 مليون دولار، لينتهي بذلك الاستعمار الروسي في أمريكا، ويتركز أكثر في آسيا، حيث تأجج صراع آخر على النفوذ مع قوى الاستعمار الغربي، وعلى رأسها بريطانيا.
القدس العربي