شيوع مصطلح «المنظومة» في لبنان… وكسادُه
«المنظومة» مفردةٌ تُلاكُ على مدار الساعة، وبلا كلل، في التداول الخطابي السياسي والإعلامي بلبنان. شاع تداولها في السنوات السابقة على «زمن الانهيار» أواخر العام 2019، الذي أعقب انفضاض أوهام «زمن تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار» وقد استطالت قبل ذلك لثلاثة عقود.
ثم عظم هذا التداول لمفردة «المنظومة» وبداعي التنديد بها، مع الانهيار المتمادي والانسداد الدستوري. تنازعت الألسن والشاشات المفردة. كلّ في الاتجاه الذي يدرج فيه أخصامه ومن يناكفهم ضمنها. كمنظومة مرذولة يتعفّف هو عنها ويتأفّف منها ويسدّد لها التوعّدات واللعنات، ويجمع فيها المتناقضات والتعقيدات، التي يقصيها عنه من على يساره ويمينه.
بهذا المعنى، عند أهل السياسة، «المنظومة هي الآخر» كما أن «الفاسد والمفسد» هو الآخر. وكذلك الطائفي والمذهبي هو الآخر. ليس هناك من يعرّف عن نفسه بأنه ابن المنظومة أو الناطق باسم المنظومة، أو حارس المنظومة. وفي حين أنه، في زمن الوصاية السورية درج الحديث أن فلانا معنا «في الخط» الموالي لسوريا وفلانا ضد «الخط» ثم سيطرت مشهدية انشطار «الساحتين» في 8 و 14 آذار 2005 على خلفية اغتيال الرئيس رفيق الحريري والضغط المنادي بإخراج القوات السورية من لبنان، تأتي «المنظومة» كما لو أنها بحد ذاتها مفهوم متعال عن الخط والساحة وكل ظرف مكان. لا «حيث» لها ولا «حيز». بل يمكن أن تتخذ لها أكثر من شكل، وأكثر من موقع وحيز، على سبيل المخاتلة والمخادعة. في الإكثار من التداول بلفظة «منظومة» لبنانياً إذاً نوع من إقرار ضمنيّ بأنه لم تعد هناك مواقع تتحدد على أساسها المواقف. لا حرب جبهات، ولا حرب مواقع. بل مباراة في الملاعنة. كل يلعن «المنظومة» ويحتسب نفسها على النقيض منها!
لم يعد هناك تقريباً من لا يستخدم الكلمة ضد سواه. بالنسبة الى جمعية المصارف مثلاً، منظومة الفساد التي نهشت مؤسسات الدولة هي التي تأكل المال عن المصارف فلا يكون بمستطاعها ايفاء متطلبات مودعيها. وبالنسبة الى الناشطين بين المودعين المطالبين بحقوقهم، أرباب المصارف هم أرباب «المنظومة» والدولة هي دولتهم، سخّروها لهم، كمنجم يفيض نهباً حتى التلف.
اللعب بمفردة «منظومة» ومن خلالها، بات، والى حد كبير، محور الدلالات. وأحياناً، يكاد أرباب المصارف يفرجون عن أساريرهم، بهذا الشكل، لمودعيهم: «كلنا يا حبيبي من نفس المنظومة. فقد تبغددتم طويلاً بالفوائد العالية، وما كان لكم هذا، لولا هذه المنظومة».
بيد أن المصطلح انبثق أساساً من الحراكات المدنية الاحتجاجية. بدءاً من الحراك في صيف أزمة النفايات 2015، والاعتصامات ضد التمديد الذاتي للبرلمان المنتخب عام 2009 لنفسه أكثر من مرة، وبرواج أوسع مع الوثبة الشعبية لخريف 2019. إلا أنّ القوى السياسية المختلفة تسابقت على اقتباس هذا التعبير، والادّعاء أنّها الأولى به، كي ترشق به سواها.
فإذا عنت المنظومة بالنسبة إلى «ناشط مدني» يعرّف عن نفسه كحراكيّ عام 2015 ويقفز الى منزلة «الثائر» عام 2019، مجموع من تعاقب وتشارك في الحكم بلبنان بعد الحرب، إلا أن ثمة فارقا هنا. يتصل بتقدير المتن من الهامش ضمن هذه المنظومة.
يمكن القول مثلاً، أن القسم الأكبر من «مجتمع الناشطين» أخذ يميل مع الوقت إلى اعطاء دور أكبر لحزب الله ضمن هذه المنظومة. اذ جرى الانتقال من لحظة كان فيها احتساب الحزب عليها موضوعاً خلافياً في «مجتمع الناشطين المدنيين» وبعضهم كان يمني النفس بدوام اللعبة السهلة نسبياً – أي هجاء النيوليبرالية الحريرية – بدلاً من لعبة المتاعب – الاصطدام بحزب مدجج بالعقيدة والسلاح. شيئاً بعد شيء حسم الجدل حول الحزب ضمن هذه الدائرة المدنية – عام 2019 – باتجاه توطيد مقولة «الحزب حامي/ أو حارس المنظومة». بعضهم وجد نفسه يزحل تدريجياً باتجاه الموقف السلبي من الحزب، بعد أن كان يقنع نفسه قبل ذلك بتهديف على «الثنائي أمل وحزب الله» وبنقمة أكبر كان يظهرها على «أمل». لكن سرعان ما وجد نفسه في تصادم مباشر مع مناخات الحزب.
كلما توغلنا أكثر في زمن الانهيار، رأينا تحقيق نقطة إجماع «نشطائية» حول انتماء الحزب لهذه المنظومة المتخيلة. ليصار من ثم الى احتسابها كلها، «منظومة حزب الله والمتواطئين معه». أقله عند قسم لا يستهان به من الناشطين.
في الوقت نفسه، ترى البعض من هؤلاء يرفض «ثنائية» 8 آذار «الممانعة» في مواجهة 14 آذار «السيادية». وحجته هنا في رفض الثنائيات ليست رؤية الواقع كمتعدد ومتماوج ومركب بشكل أكبر بكثير منها، وإنما رؤيته مسطّحاً أكثر، حدّ اعتبار قوى 14 آذار متواطئة بشكل أو بآخر مع «حزب الله» و«الطبقة السياسية» متواطئة مع «المصارف» كله في «وحدة المنظومة». وبعد ذلك مباشرة رؤية التواطؤ مع المنظومة في الأقربين من حوله. وهكذا.
تبدأ المشكلة مع هكذا مقاربة في تفسيرها أي نزاع بين «أركان» المنظومة «الحاكمة» على أنه نزاع «غير سياسي» هدفه فقط إما تناهش بعضهم لحصص بعض، وإما ذر الرماد في عيون المظلومين، من ضحايا المنظومة. وتتعمق المشكلة مع الاستخدام الزائد لمعزوفة «المنظومة» في أنها تميل مع الوقت الى جعلك ترى المنظومة في كل شيء يحوم أو يدبّ حولك… سواك.
تبرز المفارقة أيضاً من جهة أن دعاة القطيعة مع «المنظومة» ككل، وهي ليست أبداً نفس المنظومة من شخص سياسي الى آخر، ليس عندهم، ما يكملون به خطاب القطيعة المبتور هذا.
فمن منهم مثلاً ينادي بدستور جديد للبلاد؟ يقولون لك: «ليس وقتها الآن». وقد يضيفون: «هذا الموضوع قد يعطي الحجة لأهل المنظومة، وتحديداً للحزب حارس المنظومة، لشق وحدة القوى التي تجافي المنظومة».
المزيد من القصور الوهمية إذاً. ومن المكابرة على اندثار الواقع المجتمعي الميداني للقوى التي تخرج الى الطرقات للتنديد بأي شيء كان، سواء كان المندد بهم يساوون منظومة أو نصف منظومة!
في نهاية الأمر، يأتي «التعكيز» بل «العك» الزائد على مفردة منظومة، كإشارة الى تجوف خطابي لا يريد أن يميز في المجتمع اللبناني شرائح اجتماعية طبقية مختلفة، ولا حساسيات إثنية ومناطقية مختلفة، ولا تباينات بين أجيال، والذي لا يريد أن يرى في السياسة لحظات ليس ما هو صحيح في واحدة منها بالصحيح في التي تعقبها، ولا يريد أن يرى في الاقتصاد فئات مختلفة لكل منها مصالح متباينة عن الفئة الأخرى. إذا كانت الثنائيات عند الإكثار من اعتمادها في التحليل وفي الموقف بالسياسة، تثير مشكلات جدية للغاية، فإن سكب كل شيء في منظومة واحدة تترتب عليه مشكلات عويصة بعد أكثر. والنظم في اللغة حين لا يتعلق بنظم الشعر، فهو يعني نظم اللؤلؤ أو الخرز في سلك. فهل يمكن احتساب كل المتسببين بانهيار الوضع الاقتصادي وانسداد الوضع السياسي في لبنان سلكاً واحداً؟ قد تكون هناك مصلحة تعبوية في احتسابهم كذلك في فترة المد الجماهيري، لكن بعد سنوات على الانكفاء الميداني قد يصبح الأمر تعطيلياً لأي تحريك مستقبلي ممكن، وتعطيلياً قبل ذلك للقدرة على الاحتمال النفسي والسياسي معاً لدركات الانهيار المتتابعة. اللافت في المقابل، أنه، في ظل هذا التزاحم على اقتباس مفردة منظومة، بمن فيهم من تيار عون ومن القوات، فإن «القوات» وحدها أدخلت مؤخراً الى التداول مفردة أخرى: «التركيبة». عند كلام رئيسها عن احتمال طرحه «إعادة النظر بالتركيبة» القائمة.
مصطلح التركيبة شائك أكثر. فهل عنى رئيس القوات اعادة النظر باتفاق الطائف أو ما أكثر؟ النظام السياسي أو شكل الدولة؟ أو شكل المجتمع؟ التركيبة مفهوم حيوي. له أثر. يمكنه أن يعيدنا الى حيث المعنى. المعنى الذي هجرناه أكثر فأكثر مع مفردة «منظومة»: فمن كثرة ما استخدم لرمي الغير به، واعفاء الأنا والنحن منه، أصابه الكساد. بات حاجزاً يعتّم على القول والفعل في آن.
لكن التركيبة موضع اعادة النظر ستأخذك في اتجاهات ثلاثة. التركيبة قد تُحمل على أنها سياسية واجتماعية وثقافية. هل يمكن إعادة النظر بضلع واحد من هذا المثلث دون اعادة النظر بالمثلث برمته؟ أياً يكن من شيء، «إعادة النظر بالتركيبة» فيها ما يشي بالظمأ الى المعنى.
القدس العربي