حرب أوكرانيا الثانية
بعد أيام، تدخل حرب أوكرانيا عامها الثاني، وربما من النقطة نفسها التي بدأ عندها العام الأول، أي من إقليم الدونباس الصناعي الزاخر بالمناجم، ويضم مقاطعتي دونيتسك و»لوغانسك» المتداخلتين، وقد أعلن حلفاء روسيا الأوكران استقلالهما عام 2014، ودارت حرب محلية طاحنة مع الجيش الأوكراني وسلطة كييف، استردت فيها كييف عددا من المدن، ونقلت عاصمة دونيتسك من المدينة المعروفة بالاسم نفسه إلى كراماتورسك غربا، وتدخلت فرنسا وألمانيا بالنيابة عن المعسكر الغربي، وتواصلت مع موسكو وكييف بحثا عن تسوية، لاحت فرصها باجتماع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع الرئيس الأوكراني وقتها بيترو بوروشينكو، على هامش احتفالات الذكرى السبعين لإنزال القوات الأمريكية على شاطئ «نورماندي» الفرنسية في الحرب العالمية الثانية، وولدت «صيغة نورماندي» التي توصلت في بيلاروسيا إلى ما يعرف باسم «اتفاق مينسك ـ 2»، الذي منح صيغة مطورة للحكم الذاتي في دونيتسك ولوغانسك الناطقتين غالبا باللغة الروسية، وأعاقت سلطة كييف تنفيذ الاتفاق لسنوات، زاد فيها غضب بوتين، إلى أن أعلن اعترافه الرسمي بجمهوريتي الدونباس في 21 فبراير/شباط 2022، وأقدم بعدها على ما تسميه روسيا عمليتها العسكرية الخاصة، التي أضافت مقاطعتي خيرسون وزاباروجيا إلى قائمة الأهداف المباشرة، وأعلنت ضم المقاطعات الأربع إلى روسيا أواخر سبتمبر/أيلول 2022. وتعرضت لانتكاسات ميدانية في الخريف، أعادت بعدها تنظيم قواتها على خط الجبهة الممتد لألف كيلومتر شرق نهر الدنيبرو.
وفي الشتاء الذي تتجمد ثلوجه اليوم، استعادت القوات الروسية زمام المبادرة، خصوصا بعد إعلان تعبئة جزئية، زادت عديد قوات موسكو والحلفاء إلى نحو نصف مليون جندي، ولجأت إلى عمليات قتال متمهلة، تقدمت فيها مترا فمتر، وراحت تقضم قرى وبلدات ومدنا صغيرة، أغلبها حول مدينة باخموت، وعلى خط كراسنى ليمان إلى كوبيانسك في مقاطعة خاركيف، وصارت السيطرة على باخموت مسألة وقت عابر، في حين تتمسك بها كييف، ويطلق عليها الرئيس الأوكرانى فلولوديمير زيلينسكى صفة «الحصن المنيع»، بينما تدور داخلها حرب شوارع طاحنة، ويسقط القتلى الأوكران في «مفرمة لحم» رهيبة، وتتقلص طرق الإمداد، وتبدو الكفة أرجح لصالح «جماعة فاغنر» المحاربة مع القوات الروسية، التي تعتبر الاستيلاء على باخموت مفتاحا للتقدم إلى سلافيانسك وكراماتورسك، وإكمال السيطرة على الدونباس تماما، في ما يعتقد أنه الهدف الأول للحرب الثانية وللهجوم الروسي الكثيف المنتظر، الذي قد يبدأ مباشرة بعد خطاب بوتين في الذكرى الأولى لإطلاق القتال الروسي في أوكرانيا، وقد شابه الاضطراب والتشوش في البداية، واعتمد على قوات غير كافية، وذهب إلى ضواحي كييف، ثم عاد منها، بعد مفاوضات جرت في إسطنبول التركية في أبريل/نيسان 2022، انتهت وقتها إلى شبه اتفاق، بدا مشجعا لموسكو، وركّز على تعهد أوكرانيا بالحياد وعدم الانضمام لحلف شمال الأطلنطي «الناتو»، وتناسى قضية شبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا بهجوم خاطف في فبراير 2014، لكن كييف تراجعت عن الاتفاق بسرعة تحت ضغط واشنطن، التي أغراها انسحاب الروس من حول كييف، وقررت القفز إلى هدف «إضعاف روسيا» وهزيمتها، بمداومة الحرب «حتى آخر جندي أوكراني»، وتحويل المعركة من حرب ذات طابع عالمي ظاهر، إلى حرب عالمية اخترقت كل الخطوط الحمر دون المستوى النووي، وهو ما قاد إلى تغير محسوس في التصور الروسي، جوهره أن التفاوض لم يعد واردا، وأن «كسب السلم» لم يعد ممكنا بغير «كسب الحرب»، والتحول من التقدم العسكري الروسي الجزئي إلى الحسم الكامل، وبما قد يتجاوز حدود ضم المقاطعات الأربع، مع نقل قيادة العملية إلى الجنرال فاليري جيراسيموف قائد الأركان الروسية نفسه.
وهكذا يدخل الصدام دورته الثانية، وقد انقشعت سحابات الأوهام كلها، ولم يعد الكسب الروسي المحتمل للحرب هزيمة لأوكرانيا وحدها، بل هزيمة لواشنطن و»الناتو» والغرب كله، وهو ما يفسر اندفاع أمريكا إلى آخر الشوط، وقيادتها لتحالف الخمسين دولة في جماعة «رامشتاين»، التي عقدت أطرافها الأطلنطية اجتماعا قبل أيام في بروكسل، واتفقت على مواصلة دعم أوكرانيا إلى آخر طلقة، بعد أن أعلن بوتين استعداده لحرب تدوم لسنوات، وبعد أن تحول الصدام الدامي إلى حرب استنزاف صريحة متبادلة، لا إلى حرب استنزاف لروسيا وحدها، كما رغبت واشنطن، فقد تأثر الاقتصاد الروسي بترسانة 15 ألف عقوبة غربية، ولكن في حدود الإعاقة ممكنة الاحتمال، لا إلى غايات الإنهاك التي تصورتها واشنطن وحلفاؤها، ولسبب ظاهر، هو مرونة التحرك الروسي في استبدال أسواق الطاقة، وتعويض نقص الاستيراد الأوروبي للغاز الروسي بأسواق أخرى، أهمها أسواق الصين والهند وغيرها، تماما كما جرى تجاوز عقوبات «تسقيف» أسعار البترول والغاز الروسي بطرق متعددة، والمحصلة المرئية، أن عوائد الطاقة الروسية لم تتأثر إلا على نحو هامشي، أضف إلى ذلك، تطور علاقات الاقتصاد، وربما السلاح، بين بكين وموسكو إلى تحالف منظور، قفزا من «علاقة بلا حدود»، جرى الاتفاق عليها بين بوتين والرئيس الصيني شي جين بينج في لقاء شهير، جرى في بكين قبل عشرين يوما من بدء روسيا لعمليتها العسكرية في 24 فبراير 2022، ثم جاء السلوك الأمريكي باندفاعه الأعمى، وقرنه لحصار روسيا باستفزاز الصين، من زيارات تايوان إلى إسقاط «المنطاد الصيني»، وفرض عقوبات أمريكية على شركات التكنولوجيا الصينية، وغيرها من صور التنافس المحموم على نفوذ عالمي في افريقيا والمنطقة العربية والشرق أوسطية وغيرها، جاءت كل الاستفزازات والتنافسات، وغيرها من مساعي أمريكا لحصار الصين عسكريا في شرق آسيا والمحيط الهادئ، وأدت كل هذه التطورات للمفارقة إلى خلق ميادين حركة أوسع لموسكو، جعلت أحلام أمريكا بعزلها نوعا من الأوهام، ومن فوائض «حلاوة روح» الثيران في أوان الذبح، وبما جعل الاقتصاد الروسي متوسط الحجم في حال ارتياح ملحوظ، مكنه من تدبير موارد مضافة، وتعويض حظر التكنولوجيا الغربية بتكنولوجيا صينية، وبزيادة التبادل التجاري مع الصين إلى أرقام مضاعفة، جرى مثلها مع دول أخرى على خرائط المعمورة، وتقدمت جماعة «بريكس» الاقتصادية إلى آفاق أرحب، تستعد اقتصادات بارزة للانضمام إليها، وإلى دعم خطط موسكو وبكين في الحرب ضد تحكم الدولار وشقيقه اليورو في تعاملات التجارة وسباقات أوراق النقد، وهو ما شجع موسكو على إلغاء اليورو بعد الدولار من احتياطيات صندوقها الاستثماري، وزاد من عزمها الرد بعقوبات مضادة، ألهبت جراح اقتصادات أوروبا المتحالفة التابعة لواشنطن، وحوّلت سلاح العقوبات الغربية المفرطة إلى طلقات مرتدة لصدر أصحابها، وهو ما قد يمتد إلى ما يلى من عقوبات، من نوع سرقة الأصول الروسية المالية المجمدة عند أمريكا والحلفاء الأوروبيين، البالغة ما يفوق 300 مليار دولار، ولدى موسكو إمكانية الرد الفوري عليها، عبر تأميم أصول ومنشآت شركات كبرى أوروبية وأمريكية على أراضيها، تبلغ قيمتها ما يساوي ويزيد على أصول البنك المركزي الروسي المجمدة في الغرب، والمعنى بعد ذلك كله، أن مقدرة روسيا على تمويل حربها في أوكرانيا، لم تتأثر كثيرا، بينما تبدو عوارض الاستنزاف بادية في المعسكر الغربي، المهدد بنفاد ذخيرته بعد استنزاف خزائنه، فقد دفعت واشنطن وحدها لأوكرانيا 100 مليار دولار في عام الحرب الأول، ودفعت أوروبا 67 مليار يورو، أضف إلى التكاليف الباهظة، ما وافق عليه الكونغرس الأمريكي في ديسمبر/كانون الأول 2022، وقراره منح أوكرانيا 49 مليار دولار في العام الجاري 2023، رغم وصول ديون أمريكا إلى 31.4 تريليون دولار، وما أعلنه الاتحاد الأوروبي عن توفير 18 مليار يورو إضافية لكييف، وفوق الاستنزاف المالي، يجري الاستنزاف العسكري، فلم يعد من سلاح غربي محجوز ولا محجور على أوكرانيا، بما فيها الدبابات الأحدث والطائرات المقاتلة والصواريخ بعيدة المدى، ربما طلبا لأمل مراوغ في هزيمة روسيا ميدانيا، أو دفعها بالحد الأدنى لقبول تسوية وسطية، يؤدي غيابها لتفاقم انشقاقات تجري تحت السطح المستوي غربيا في الظاهر، بينما تبدو شهية روسيا مفتوحة لمواصلة الحرب، وهي تدخل العام الثاني بأهداف أكثر وضوحا، وتستمر في التلويح بدمار نووي، لن تقدم عليه غالبا، لكنها تستخدم التهديد النووي كإشارة ردع وتخويف، وتعالج عيوب وإخفاقات عمليتها العسكرية في عامها الأول، وتنوي على ما يبدو، أن يكون هجومها كاسحا هذه المرة، يعجل بإجبار الآخرين على رفع رايات الاستسلام البيضاء، وقبول شروطها كاملة، وأولها شرط تحصين وجود روسيا وبقاء بوتين نفسه.
القدس العربي