الأوبئة والزلازل توحدنا
لقد جاءت الدعوات الدينية، والشرائع الوضعية والفلسفات والعلوم الإنسانية من أجل جعل الناس متعايشين، بعيدا عن الحسابات الضيقة التي لا ينتج عنها سوى القتل وإزهاق الأرواح البريئة.
كل الدعاة نعتبرهم معلمين وعلماء، إلا أن المتأمل في الأوبئة التي تجري على حياتنا سيجدها آيات تعلمنا ـ من حيث ندري أو لا ندري ـ كيف نكون كائنات متضامنة تضامنا نشعر بصدده أننا فعلا إخوة كلنا من آدم وآدم من تراب.
وفي العامين الماضيين أطل علينا عبر الإعلام محفز غريب عجيب، معلم لا نراه بالعين المجردة وهو أصغر من أصغر إنسان بملايين المرات، إنه كورونا الفيروس المجهري الذي حرك كل العالم برؤسائه وشعوبه وإعلامه… فصار الكل صفا واحد يحمل هدفا واحدا هو المجابهة والتصدي والاحتراز منه.
المسؤولية الإنسانية
أدخل الناس بيوتهم، وجعل بعضهم يوجه وينصح غيره ويحذره من الوباء، دفع الناس فصاروا أسخياء، تنازل بعضهم عن راتبه الشهري لفائدة المرضى، تصدق على من لا دخل له وهو مسؤول عن امرأة وأبناء.. وجه أنظار الجميع نحو الشاشات يستطلعون أخبار إخوانهم في الدول.
وهنا تغيب الملل والمذاهب والانتماءات والجنسيات ليعمل الكل من أجل الكل. سخر في ذلك الدعم المادي والمعنوي، وتسارعت الفنون والإبداعات لعكس ما يعانيه هؤلاء وأولئك من ويلات ومعضلات، فالكل يستحضر المسؤولية الإنسانية التي على عاتقه..
وجه الأدباء والتشكيليون وصناع الأفلام فسخروا إبداعاتهم من أجل التصدي للوباء عبر الإبداع والمقالات واللوحات، فصار الفن فن القضايا بعد أن كان يسبح في الخيالات بلا حدود ولا ضوابط.. تلك مجريات صاحبت الوباء الشرس، الذي فتك بالكثيرين، ونجا منه الكثيرون، ووزعت اللقاحات مجانا بشكل يشعرنا أننا كأصابع اليد الواحدة يحتاج بعضها إلى بعض.
وها هو الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا، يعيد تعليمنا كيف نكون متآزرين متعقلين، عارفين أن ما جرى هنا قد يجري هناك، وأن من نجا اليوم قد يقع غدا.. وفي عمق كل إنسان تستيقظ طيبة الفطرة ونقاؤها، لتبعد عنها صدأ السياسات المبنية على الأنانيات المغرضة، التي لا غاية لها سوى الإغاظة والدفع نحو الغيظ والبغض.
في سوريا وتركيا يجري تقديم الدعم والمساعدات الطبية والغذائية لملايين الأشخاص، لا يعرف المساعدون مللهم ولا نحلهم، لا يعرفون أحسابهم ولا أنسابهم.. كل الطوائف الناجية من الهول ساهمت في الإنقاذ، الطلبة الأجانب والمحليون، الأطباء العامون والخاصون النساء والرجال والشباب دأبهم وهمهم إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وكما كان الحزن عاما، يكون إنقاذ شخص أو أكثر مثيرا لفرحة عامة، ونقرأ في الإعلام دعوة الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إلى وجوب تسخير كل الإمكانيات المتاحة للتقليل من حدة المعاناة على المناطق المتضررة.
المطارات، والطائرات، والسيارات، والحافلات، والقطارات، والتجار، والأساتذة، الأطباء، والممرضون والعمال ذكورا وإناثا… متحدون، لهم مأرب واحد تخليص من يستطيعون من مأزقه الذي لا دخل له فيه.
تدمير البيئة والمساكن
يجري هذا، وفي هذا الوقت بالذات، في حين أن العالم تزهق فيه الأرواح صباح مساء بين دول ودول يوحدها انتماؤها إلى عالم كان من المفروض أن يسود فيه السلام والوئام. في الحرب خربت سوريا، وخرب العراق، وخربت ليبيا، وفلسطين، وكثير من دول افريقيا.. في الحروب أحرقت أراض ومواش وغابات، قتل الصبيان والنساء والشيوخ.. الكل يقتل ويقاتل، الكل يحلف ويقسم على الدحر والإبادة، ومن أجل ذلك يمكن استعمال كل الأسلحة، لا يهم خطرها على تدمير البيئة والمساكن، وكل مؤثثات صفحة الأرض، أليس هذا زلزالا من نوع آخر؟
فلماذا لا نتحد ونتعايش ونتسامح كي تكون المبادئ النبيلة التي تملأ خطاباتنا في شتى المناسبات بارزة تتجاوز الخطابات إلى التصرفات؟
القدس العربي