الاستعصاء الرئاسي ومعضلة ترشيح فرنجية
حتى إشعار آخر، أو لا إشعار، يدور الاستحقاق الرئاسي اللبناني في حلقة مفرغة. حيث «الكلّ» يتأفف من فكرة البحث عن رئيس توافقي وتلفيقي، مائع وفاتر، مبهم الاصطفاف، ميّال إلى التسويف وطمر المستعصيات من الأمور تحت سجادة التشريفات. والكلّ يشدّد على أنّ المرحلة لا تحتمل رئيساً لا طعم له ولا لون، هذا على الرغم من تراجع صلاحيات هذا المنصب بعد اتفاق الطائف.
يبقى أنه ليس لأي طرف رجحان الكفة لفرض خيار «فصل المقال» بالشكل الذي يراه هو، وفي الوجهة التي يجد أنها الأجدى ولا محيد عنها. «اللاتوافقي» هو المرغوب بشدّة هذه المرة. بل ثمة توافق على وجوب عدم الإتيان برئيس توافقي. لكن حصيلة نبذ الجميع لفكرة الرئيس التوافقي هي تعجيز الجميع للجميع، وامتناع عملية تجسيد الصفة «اللاتوافقية» المنشودة في شخص بعينه. شخص يمكن أن تذلل أمامه العقبات المعترضة عقد جلسة برلمانية مكتملة النصاب وتفضي الى انتخاب الرئيس العتيد.
يحدث هذا في بلد تتغذى فيه نكبته المالية من نكبته السياسية والعكس بالعكس. وكلما اشتدت النكبتان صارت الحاجة الى «الرئيس غير التوافقي» أكبر، والنظرة الى الرئيس «المجاملاتي» سلبية أكثر، وكلما صارت انتخابات الرئاسة مؤجلة أكثر.
والبلد تمكن، رغم النكبتين المالية والسياسية – لكن أيضاً في نطاقهما ـ من تنظيم انتخابات نيابية العام الماضي، حيث سجل تراجع وضوح كل من عدد ونوع الأكثرية النيابية «المتفاهمة» مع «حزب الله». لم تنعدم لكنها لم تعد متاحة بشكل مستقر. هذا من دون أن يترجم ذلك بقدرة على صياغة مكتملة للوحة البرلمانية على المقلب الآخر.
ساهمت هذه الانتخابات بالنتيجة في زيادة منسوب الاستعصاء السياسي، بما يعنيه من تراجع الى أدنى درجة لإمكانية إحداث مبادرات داخلية من شأنها تسييل بعض الجمود في المواقف الحادة والقطعية. ينتظر البلد مبادرات أجنبية بين الفينة والفينة، وليس فيه بالمقابل، من يأخذ على محمل الجد، الإقدام على مبادرات داخلية من أي نوع لتجاوز حال الانقطاع المتفاقمة.
لذا، لم يتأمن الاستعداد النسبي المسبق لمرحلة الشغور الرئاسي كما كانت الحال عام 2014. ففي نهاية ولاية ميشال سليمان، وعشية الدخول في فراغ الكرسي الأول بالدولة لعامين ونصف العام بعد ذلك، جرى تفادي الفراغ الشامل في السلطة التنفيذية من خلال تسهيل عملية تشكيل حكومة بعد فترة من الشغور الحكومي. فقفزنا حينها من رئيس جمهورية من دون حكومة الى حكومة (برئاسة تمام سلام) من دون رئيس جمهورية في قصر بعبدا. لم ينقطع حبل السلطة التنفيذية ولو باتت تعمل بشكل متقطع.
أما بعد انتخابات 2022، فكل ما استطاع البرلمان جديد القيام به هو تجديد انتخاب المرشح الوحيد منذ 1992 لرئاسة المجلس النيابي نبيه بري.
فحكومة ما قبل الانتخابات تعتبر مستقيلة بعدها. غير أنه ما من حكومة تشكلت بعدها، اذ لم يوافق الرئيس ميشال عون على أي تشكيلة رفعها الرئيس المكلف تشكيل الحكومة الذي هو في الوقت نفسه رئيس الحكومة المستقيلة المكلفة تسيير الأعمال. بل أصر عون قبل ساعات من اخلائه القصر بأن الحكومة مستقيلة مرتين، مرة عند انتخاب برلمان جديد، ومرة عند مغادرة الرئيس للقصر. وبالنتيجة، لم يعد في المناصب الثلاثة المفتاحية على رأس مؤسسات الدولة سوى نبيه بري. بالتوازي، يوحي عدم التجديد للواء عباس ابراهيم على مديرية الأمن العام أن هذا الأمر سيتكرر في وظائف الفئة الأولى، الخطيرة والحساسة، وبالتالي على فراغ مشرّع لفراغ أعتى وأشد وأوسع. كل هذا ولا تجد في المتابعة الداخلية للشأن الا واحداً من اثنين: إما ترداد «الصيغ المقفلة» أي غير المفتوحة على تبدل اللحظة، واختلاف السياق وتناسب القوى، وهي الصيغ التي تبدأ عادة من «ينبغي أن يحصل كيت وكيت من الأمور». وإما في المقابل انتظار معطيات إقليمية ودولية مؤاتية لفتح ثغرة في استعصاء الاستحقاق الرئاسي.
في هذا الغضون، وبعد أشهر من إيثار صب الأوراق البيضاء في صندوق الاقتراع أو القرعة، حزم الحزب الخميني أمره، وتبنى بشكل واضح وعلني ترشيح «اللاتوافقي بامتياز» سليمان فرنجية. حدث الأمر مباشرة بعد انتكاسة أول محاولة لبث اسم فرنجية في اتجاه السعوديين، من قبل الفعاليات المحلية الوسيطة، الأمر الذي قوبل بالرفض السريع.
فرنجية والحال هذه هو مرشح لا توافقي الآن. طرح اسمه في هذه اللحظة، ومباشرة بعد وصول ترشيح اسم ابن البلدة نفسها، ميشال معوض، اللاتوافقي هو الآخر، الى مأزق تكرار نفس المشهد في قاعة مجلس النواب. والمشكلة أن الألوان السياسية الموصوفة «بالسيادية» ان هي سعت كي تطرح اسم قائد الجيش في الوقت الحالي كمرشح لإيجاد مخرج من حال الجمود، سيقابل ذلك برفض أوضح لهذا الخيار من طرف «حزب الله». كل شيء يحمل على الاعتقاد أساساً بأن «حزب الله» سيثبت على اسم فرنجية لفترة طويلة.
لم يجد الحزب نفسه في خاتمة المطاف مقيّداً بحاجته التحالفية مع جبران باسيل والتيار العوني. مثّلت تسمية أمينه العام لفرنجية بوضوح عملية وضع لباسيل أمام الأمر الواقع. وربما مفاوضته من ثم. قد لا يكون بغية تليين موقفه الرافض لفرنجية. وإنما للحفاظ على علاقة «تقاطعية» معه، على أنقاض العلاقة «التفاهمية».
فحزب الله يبدو استراتيجياً أو منهجياً في سياسته المسيحية. يتبنى ترشيح فرنجية الآن، وقد يضمر الذهاب الى منطق «فرنجية أو لا أحد». لكن الحزب يشعر بأن «حرد» العونيين «مقدور عليه» بمرور الوقت، طالما أن الأطراف الأخرى ما عادت تتقبل التعاطي مع باسيل.
في النهاية لم يعد من قوة سياسية تتعاطى مع باسيل سوى الحزب. وسياسة الحزب المسيحية ثابتة على شيء واحد، وسط كل هذه الرمال المتحركة والمتغيرات: عداء «حزب الله» المنهجي للقوات اللبنانية، وتصنيفها على أنها بمثابة العدو الداخلي الرئيسي. العدو الذي لا يمكن توجيه ضربة له إلا إذا عزل نفسه سياسياً عن بقية الأطراف، وهو ما قد يأخذه اليه اعتداد القوات بتراصّها وقوة مراسها.
والحال أن «القوات» حالياً باتت أقل ميلا الى العزلة من فترة سابقة. بخاصة عشية الانتخابات التي يقضي منطقها، القانون الانتخابي نفسه، على أي مسوغ لإقامة تحالفات متنوعة ضمن التوجه السياسي المتقارب. لم تستطع القوات تجاوز أطياف الشكوى الحريرية منها عند بعض من النواب السنة. وتمكنت من تجاوز الحاجز النفسي للتعاطي معها من قبل بعض نواب ما يوصف «بالتغيير». وأعادت بعض الحياة لعلاقتها مع الكتائب. استوعبت خطر المضي قدماً في عزل نفسها بنفسها. هذا ناهيك عن علاقتها المتأرجحة لكن الجدية مع كل من جنبلاط ونبيه بري.
في المقابل، جبران باسيل هو الذي مضى الى عزل نفسه عن الجميع. هو الآن يلتقي موضوعياً مع القوات والكتائب على صدّ سليمان فرنجية. لكن هذا الالتقاء الموضوعي ضد فرنجية ما عاد من الممكن أن يرفقه تقارب ذاتي من أي نوع. بالتالي هامش حركة باسيل محدودة. ولذا، فحزب الله يتعامل مع انقباض عون وباسيل على أنه موقف ما زال تحت السيطرة. الأبواب موصودة في كل البلد، سياسياً حيال باسيل، الا باب الحزب، ولو فضّل عليه فرنجية جهاراً.
والحال أن ترشيح فرنجية هو عنوان لمرحلة انتقالية يصعب أن تكون هادئة. مرحلة ستتأثر بتحولات العلاقة الإيرانية السعودية والإيرانية الأمريكية وما شئت من محددات، لكن لها رغم كل شيء إطارها الداخلي النسبي. «حزب الله» يرشح فرنجية لا كي يتخلى عنه في اليوم التالي. هو يقول بالملأ لا لكل المرشحين الباقين.
القدس العربي