هل يمكن التوصل إلى اتفاق سياسي نهائي في السودان؟
بتاريخ 15 مارس الجاري، عقد في الخرطوم اجتماعا موسعا ضم قيادة القوات المسلحة وقيادة قوات الدعم السريع وأكثر من ثلاثين من ممثلي القوى المدنية الموقعة على الإتفاق الإطاري لمناقشة مسار العملية السياسية في البلاد.
وحضر اللقاء سفراء وممثلو الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والإيقاد) والمجموعة الرباعية (السعودية والإمارات وبريطانيا والولايات المتحدة) والاتحاد الأوروبي. إتخذ الإجتماع عدة قرارات أهمها، من وجهة نظري، تشكيل آلية ثلاثية تضم القوى الموقعة على الإتفاق الإطاري والقوى غير الموقعة وحركات الكفاح المسلح، تبدأ عملها بصورة عاجلة لصياغة مسودة إتفاق سياسي نهائي يتم على ضوئه التوافق حول ترتيبات دستورية جديدة تحكم تشكيل مؤسسات الفترة الانتقالية ومهامها.
الإجتماع، وتحديدا قراره المشار إليه أعلاه، يجد منا كل الدعم لأنه يسير في إتجاه إزالة، أو الحد من، الاستقطاب السياسي الحاد وسط القوى السياسية والمدنية والعسكرية، ومن ثم توافقها على التدابير والإجراءات الضررورية للخروج بالبلاد من الأزمة الحادة الراهنة التي تهدد استقرارها وأمانها ووحدتها. ونشدد مرة أخرى على أن التوافق المعني بينما لا يشمل عناصر نظام الإنقاذ المباد، فإنه يتطلب عدم إقصاء أو معاداة القوى الرافضة للعملية السياسية بصيغتها الحالية، ومن ضمنها قوى التغيير الجذري وأحزاب البعث، بل الاعتراف بأن موقفها هذا من حقها ويجب إحترامه، مع ضرورة السعي الجاد لفتح حوارات وإدارة نقاشات جادة معها حول أطروحاتها وتحفظاتها، والسعي للوصول إلى نقاط إلتقاء معها. وفي الحقيقة، ما دامت هذه القوى تتمسك بالسلمية لتحقيق رؤاها حول التغيير، وما دامت تؤمن بالآخر ولا تسعى لإقصائه، فأعتقد أن مشاركتها في الآلية المقترحة هي فرصة ملائمة لا لتبيان وجهة نظرها الناقدة للإتفاق الإطاري والعملية السياسية فحسب، بل العمل على إدخال ما تقترحه من تعديلات ضرورية يمكن التوافق حولها مع الآخرين. ولقد سبق وأن كتبت من قبل أن أي إتفاق نهائي أو إعلان سياسي جديد، وأي وثيقة دستورية جديدة، وأي برنامج انتقالي الجديد، هي مهمة تاريخية لا يمكن أن تقوم بها مجموعة بعينها من الفصائل، مثلما لا يمكنها أن تقتصر على النخب والقيادات السياسية وحدها. ومن هنا ضرورة انتظام حوار سوداني سوداني عبر مؤتمر مائدة مستديرة، تشارك فيه كل قوى الثورة، من السياسيين والتكنوقراط والمجتمع المدني والعسكريين والشخصيات الوطنية المجمع عليها، بهدف الخروج برؤية موحدة حول هذه المهمة المصيرية. وبالتأكيد فإن صياغة هذه الرؤية الموحدة، بالضرورة لا بد أن تضع في حسبانها التجربة السابقة، تجربة صياغة الإعلان السياسي والوثيقة الدستورية وتشكيل الحكومة الإنتقالية الأولى والثانية، بنجاحاتها وإخفاقاتها، وأنها تأتي إستكمالا لتلك التجربة وتصحيحا لمسارها وإنحرافاته عقب إنقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، كما لابد أن تستفيد من نشاط الورش والمؤتمرات الذي ينتظم في البلاد حاليا عقب التوقيع على الإتفاق الإطاري، ومستفيدة من الملاحظات والانتقادات الموجه إلى هذا النشاط.
أقترح أن تكون المهمة الأولى للآلية المقترحة في القرار المشار إليها أعلاه، تواصلها مع القوى الرافضة للعملية السياسية بصيغتها الحالية وكل القوى السياسية والمدنية الأخرى في البلاد، ما عدا من أطاحت بهم ثورة ديسمبر/كانون الأول العظيمة، ودعوتها للمشاركة في هذه الآلية والمساهة الجادة في أعمالها. ولا نحتاج إلى القول بأن المشاركة في هذه الآلية وسائر تفاصيل العملية السياسية لا يشترط التخلي عن أي نشاطات أخرى ما دامت تلتزم بالسلمية، وتحديدا نعني حراك الشوارع. وفي هذا الصدد لابد أن تطلع الآلية المقترحة ببحث كل ما من شأنه أن يلجم عنف الأجهزة تجاه هذا الحراك، وتفعيل آلية العدالة وعدم الإفلات من العقاب. ومن جانب آخر، ومواصلة لإقتراح أوردناه في مقال سابق، من الممكن تطوير هذه الآلية المقترحة لتكتسب طابعا قوميا، بضمها لممثلين عن القوى الموقعة على الإتفاق الإطاري وغير الموقعة وحركات الكفاح المسلح والقوى السياسية والمدنية والشبابية المتحفظة تجاه العملية السياسية، بعد التوجه إليها على النحو الذي أشرنا إليه أعلاه، إضافة إلى الشخصيات الوطنية، لتتولى إختيار قيادة الفترة الانتقالية على أساس معايير محددة تشمل: التاريخ الوطني النزيه، الأهلية والكفاءة والقدرة السياسية والتنفيذية، وبعيدا عن أي محاصصات حزبية، وأن تتولى كذلك مهام التشريع والرقابة وإعمال مبادئ الشفافية والمحاسبة وسيادة حكم القانون. أما قيادات الأحزاب والقوى السياسية فنقترح إبتعادها عن الجهاز التنفيذي وأن تكتفي بالمراقبة والمساءلة من خلال تواجدها في الآلية القومية. كما أن هذا الإقتراح يعني التخلي عن فكرة تكوين المجلس التشريعي الانتقالي وفق الصيغة القديمة، والتي أثبتت عقمها.
ومرة أخرى نكرر التنبيه والتحذير بأن أي اتفاق سياسي جديد لن يصمد كثيرا وسيعيد إنتاج الأزمة، وربما يدفع الوضع إلى الإنفجار، إذا لم تكن في صدر أولوياته قضية العدالة، وقضية إزالة تمكين الانقاذ. فالعدالة هي القضية المركزية ومفتاح الحل للخروج من حالة التأزم الراهن، وإذا لم يتم مخاطبتها بشكل جدي ومسؤول، وبمشاركة كل الأطراف أصحاب المصلحة والمختصين، خاصة لجان المقاومة وأسر الشهداء، ستصيب أي عملية سياسية في مقتل. أما قضية إزالة تمكين الانقاذ، فتدخل في باب استعادة الدولة المخطوفة من براثن حزب المؤتمر الوطني، وكشف وضرب مكامن الفساد في الدولة والمجتمع. وهذه ليست مجرد إجراءات أمنية أو بوليسية، وإنما هي عملية سياسية صرفة يجب أن تنفذ في إطار القانون ووفق أحكام القضاء، وهدفها النهائي هو تحقيق قومية كل أجهزة وهياكل الدولة، المدنية والعسكرية، وعلى أساس الكفاءة والنزاهة والإنتماء للوطن أولا.
عامان هي المدة المتفق عليا للفترة الانتقالية. وفي نظري، هذه المدة بالكاد تكفي لمخاطبة قضايا العدالة، إزالة تمكين الإنقاذ، ضرب الفساد وتنفيذ برنامج اقتصادي إسعافي، مواصلة جهود السلام، عقد المؤتمر الدستوري، التوافق على قانون انتخابات جديد يتجاوز سلبيات التجارب الديمقراطية السابقة.
القدس العربي