التلاعب بالتاريخ وبمفهوم الاستعمار في الهند اليوم
يظهر حال الهند اليوم أيّ شطط يمكن أن يقود إليه التوسّع «التلاعبيّ» بمفهوم الاستعمار.
فعقيدة «الهندوتفا» المتسلطنة منذ وصول نارندره مودي إلى رئاسة الوزراء عام 2014 والقائمة على معادلة أنّ الهند هي الوطن القوميّ للهندوس ديناً، بما أنّها الأرض المقدّسة عند الهندوس حصراً، هي عقيدة يتوسّع مفهوم الاستعمار لديها ليشمل ليس فقط مرحلة تمدّد شركة الهند الشرقية البريطانية في البنغال بعد معركة بلاسي 1757 التي سحق فيها عساكر الشركة الحكام المحليين. وكان هؤلاء الحكّام المحليون المسلمون، المعروفون بـ«نواب البنغال» مدعومين آنذاك من الفرنسيين، وتابعين رسميّاً لإمبراطوريّة سلالة مغول الهند (ذات الجذور الجنكيزية والتيمورية) وعاصمتها دهلى (دلهي اليوم) وقد انتزعت الشركة من هؤلاء الحكام المحليين وكالتها عن الإمبراطور المغوليّ في تحصيل الإيرادات والجباية، ثم مضت في إحكام قبضتها على شبه القارة بأسرها، إلى أن أخمدت بالوحشيّة الدموية حركات التمرد التي اندلعت في وجهها عام 1857، وأنهت من ثمّ آخر معلم للإمبراطورية المغوليّة، بما أنّ آخر الجالسين على عرشها بهادور شاه الثاني كان من رموز انتفاضة السيبوي هذه، وقد مات منفياً في بورما، بعد أن أعدم الإنكليز أبناءه وأحفاده.
والاستعمار البريطاني في الهند ينقسم أساساً إلى حقبتين، حقبة «شركة الهند الشرقية» بدءاً من وكالتها عن الإمبراطور المغولي إلى الإجهاز على السلالة المغولية، ومن ثم حقبة «الراج البريطاني» 1858-1947 التي انتقلت فيها مقاليد الحكم من الشركة المذكورة إلى التاج البريطاني، وصولاً إلى حلّ الشركة من جهة، وإعلان الملكة فيكتوريا إمبراطورة على الهند عام 1877. في الحقبة الأولى كانت الهند في طور أن تُستَعمَر لا من قبل المملكة بل من قبل شركة ظلّ تحديد وضعها القانوني، بين من كان يراها بخطورة أنّها كيانٌ مخرّب ومفسد للمؤسسات الدستورية ولحكم القانون في بريطانيا نفسها، وبين من كان يدافع عن الشركة بوصفها عماد التوسّع الإمبراطوريّ البريطانيّ. أما في الحقبة الثانية، فقد أدّى انتصار الشركة على حركات التمرّد بوجهها وإطاحتها بالعرش المغوليّ التي كانت وكيلة له، إلى فضّ الشركة نفسها، وإنشاء نوع غير مسبوق من المستعمرات: «مستعمرة ـ إمبراطوريّة» لأنّ فيكتوريا بقيت ملكة لبريطانيا من جهة، وإمبراطورة للهند… من جهة ثانية. بخلاف إطلاق تعبير «الراج البريطاني» على الهند وملحقاتها، لم يُكرس أبداً مصطلح «الإمبراطوريّة البريطانيّة» بشكل رسميّ، لمطابقة شيوع استخدامه عند الحديث عن المملكة المتحدة ومستعمراتها في آسيا وأفريقيا وأمريكا.
كثيراً ما يؤدي إغفال الاختلافات بين أنماط الاستعمار المتعدّدة والأشكال المتفاوتة للغاية للعلاقة بين الحواضر والأطراف فيه إلى تحويل الاستعمار نفسه إلى مقولة «جوهرانيّة» معفيّ مستخدمها من أي حاجة إلى تدقيق السياق، والتمييز بين الأحقاب، والتنبّه إلى تداخل الاستعمار في آليات اشتغاله كما في طرائق تسويغه لنفسه بما يبدو، أو بما هو بالفعل، غير مألوف الربط مع فكرة الاستعمار نفسها. أن تستعمر الهند «شركة» لا «دولة» ثم أن ينهى عمل الشركة بعد انجازها مهمتها الاستعمارية كاملة ليعهد بالهند إلى التاج، لكن لترفع فيه المستعمرة في الوقت نفسه إلى منزلة «إمبراطوريّة» قائمة بذاتها ـ ولو على صعيد الوهم، فهذان مثلان عمّا لا يجوز القفز فوقه كأنّه مجرّد زخارف في الإنشاء لا أكثر.
بتحويل «الاستعمار» إلى مقولة «جوهرانية» ليس فيها إلا سكّان أصليون من جهة، وغزاة غرباء من جهة ثانية، أمكن لحركة القومية – الدينية (الهند للهندوس) الانقضاض على المقاربة القومية – الوطنية (الهند لجميع الهنود)
بتحويل «الاستعمار» إلى مقولة «جوهرانية» ليس فيها إلا سكّان أصليون من جهة، وغزاة غرباء من جهة ثانية، أمكن لحركة القومية ـ الدينية (الهند للهندوس) الانقضاض على المقاربة القومية ـ الوطنية (الهند لجميع الهنود).
ارتبطت المقاربة الوطنية بتركة جواهرلال نهرو و«سلالته» وبحزب المؤتمر، ولم تكن بمنأى عن الرياء والإلتباس في مواضع كثيرة، وبالشكل الذي يظهره المؤرخ البريطاني بيري أندرسون في كتابه «الأيديولوجيا الهندية» (2012) وذهب فيه إلى أنّ الفكرة الوطنيّة عند غاندي ونهرو كانت تتخللها عناصر غلبة هندوسية لم يكن بمقدورها التعايش مثلاً مع بقاء شبه القارة موحّدة، بنسبة أعلى للمسلمين في الدولة الجامعة. كما أبرز أندرسون عند غاندي ونهرو غلبة النظرة المحافظة لديهم، على التراتبية الطبقية ـ الدينية (نظام الكاست) ضمن الهندوس أنفسهم. نقد أندرسون هذا فيه كثير وجاهة، إلا أنّ نظرة أكثر شموليّة ستظهر أنّ هذه المقاربة الوطنيّة الجامعة، على كثرة التلفيق فيها، كانت معنيّة على الدوام بمواجهة، على يمينها، مع حركة القومية ـ الدينية، وبأهمية سحب البساط من تحت هذه الحركة، وهو ما لم يفلح في آخر المطاف، لأنّ ما يحدث في العشرية الأخيرة هو التمادي في سحب البساط كليّاً وردّه إلى حركة القوميّة ـ الدينيّة، تلك التي ترى أنّ الهند هي وطن تارة للهندوس أولاً، وتارة للهندوس فحسب، والتي تأخذ على «حزب المؤتمر» ما يأخذه عليه أندرسون ـ إنما بالمقلوب. فأندرسون اتهم أيديولوجية حزب المؤتمر بأنّها كانت تغلّف هيمنة هندوسية ضمنيّة ولأجل ذلك كان يناسبها أن تنشق الأقاليم الطرفية لإنشاء باكستان، بما من شأنه تخفيض نسبة المسلمين في الهند المستقلّة. أما رموز القومية الدينية فيتهمون غاندي ونهرو و«حزب المؤتمر» بأنّهم لم يسعوا بكل تصميم وقوّة للحفاظ على وحدة الهند، ليس من حيث وحدة تنجز بالتفاهم مع المسلمين، بل على العكس تماماً، على حسابهم كانوا يريدون لها أن تتم، بشكل فظ ونافر ومستحيل. وأندرسون يتهم نهرو بأنّ وراء شعاراته التقدّمية نزعة محافظة على نظام الإمتيازات والمراتب، والحال أنّ القوميين ـ الدينيين يقولون الشيء نفسه ـ من زاويتهم طبعاً، فيقدمون حزب المؤتمر على أنّه يعتاش من استمرارية هذه القسمة بين الهندوس من حيث الطبقات الوراثية (الكاست) ويقدّمون حزبهم، البهاراتيا جاناتا، على أنّه مدرسة للإخاء بين أبناء الكاست المختلفة، ويستدلوّن أكثر بأن مودي نفسه ليس من الطبقات الثلاث الأولى في الترتيب الرباعي، وأنّه بدأ حياته فقيراً كواحد من «الشودره» يبيع الشاي بالشوارع، بعكس الأصل البراهماني لعائلة البانديت نهرو، وتحدّر المهاتما غاندي من طبقة التجار. المفارقة أنّ هذا الكلام يتساكن داخل الحزب الحاكم مع استمرار إمساك البراهمان فيه، وبمنظمة المتطوعين القومية ذات القدرات التعبوية الهائلة، والعنيفة في أحيان كثيرة. وهذا لا يعدّه اليمين القومي الدينيّ تناقضاً بل يعلّله بأنّ فكرته عن توحّد الهندوس كبوتقة وكأمّة هي أنّ يتمثلوا أكثر فأكثر بالنموذج التي تبثه لهم طبقة البراهمن، على رأس الهرم.
من هنا، ترتبط الهندوتفا بشكل مريع من أشكال التلاعب بمفهوم الاستعمار. فكل ما من شأنه التهديف بالنسبة إليهم على وحدة الهندوس القومية والدينية يزاول استعماراً ما. وكل ما من شأنه في الوقت نفسه التهديف على نموذجية البراهمن ضمن الهندوس كقدوة مجتمعية ينبغي التمثّل بها مشايع للاستعمار هو الآخر في عرفهم. ينسحب ذلك على التاريخ كما الحاضر. بالتالي، لا يعود الاستعمار متعلقاً بالبريطاني أو الأوروبيّ. بل يصير عمق الاستعمار بالنسبة إلى الهندوتفا هو ستة قرون من الغلبة الإسلامية في الهند. وما عزم المجلس الوطني للبحوث التربوية محو مرحلتي سلطنة دهلي ومغول الهند من المقررات المدرسية الرسمية مؤخراً غير شاهد إضافي على هذا المسار، الذي شاعت بصدده في السنوات الأخيرة مقولة أن الهند كانت ضحية «استعمار شرق أوسطي».
«الأيديولوجيا الهندية» ـ كما سماها أندرسون ـ أي بالدرجة الأولى الفكرة الوطنية كما سعى لأجلها جواهرلال نهرو كانت على هذا الصعيد تسعى لإمساك العصا من الوسط. بأن تجمع مثلاً بين النظرة الهندوسية أساساً للتاريخ الهندي الطويل الأمد وبين إدراج مرحلة السلاطين المسلمين ضمن هذا التاريخ في الوقت نفسه، والتمييز بين «مغول الهند» هؤلاء بين من سعى للإنفتاح والتقارب مع الهندوس، كجلال الدين أكبر، وبين من اندفع لاضطهادهم وتدمير معابدهم، كسليل أكبر، أورنكزيب عالم كير 1618-1707. حسبت هذه الأيديولوجيا التوفيقية أنّها يمكن أن تستوعب هكذا النزعات الطاردة والمنغلقة، بأنّ تميّز بين مغوليّ مستنير وبين مغوليّ منغلق. لكن ذلك لم ينفع طويلاً. ليس فقط لأنّ حركة القومية ـ الدينية ظهرت في وجهه. بل قبل كل شيء لأنّ هذه القسمة الثنائية بين أكبر الصالح وأورنكزيب العدواني هي خرافية أكثر مما هي تاريخية، وعندما تفتح المجال للخرافة سيقول لك روّاد الهندوتفا: نحن بها أولى!
كاتب من لبنان
القدس العربي