إمبراطور التجهيل الديمقراطي السعيد!
لما تطرقنا الأسبوع الماضي إلى ظاهرة انتشار ذهنية ما بعد الحقيقة، التي تقوم على إنكار الوقائع وتصديق الأباطيل، ذكرنا أن هذه الذهنية صارت الموجّه الأول لخط التحرير في مؤسسة إعلامية كبرى مثل شبكة فوكس نيوز، وأن الشبكة صارت لهذا السبب تمثل خطرا دائما على نزاهة الإعلام وتوازنات الديمقراطية. وتوقعنا أن جلسات المحاكمة لنظر دعوى القذف التي رفعتها شركة دومنيون لأنظمة الاقتراع على فوكس ستجلو هذه الحقيقة أكثر طيلة الأسابيع الستة القادمة. ولكن الذي حدث في الأثناء هو أن فوكس جنحت منذ الجلسة الأولى، الثلاثاء، إلى تسوية رضيت بموجبها أن تدفع أكثر من 787 مليون دولار (!) لدومنيون. لماذا؟ حتى تتجنب فضيحة نشر غسيلها الوسخ على مرأى من العالمين.
والذي حدث في الأثناء أيضا أن النيويورك تايمز نشرت تحقيقا استقصائيا عن فوكس أتى حافلا بالتفاصيل المثيرة عن الطريقة التي انزلقت بها الشبكة انزلاقا مشهودا من مجرد الانحياز لتيار اليمين الجمهوري إلى مهاوي الالتزام بنشر التضليل الممنهج الرامي إلى ترجيح كفة التيارات الشعبوية في المواسم الانتخابية وتأييد مصالحها في صلب المؤسسات الدستورية.
تقول النيويورك تايمز إن روبرت مردوخ نجح في تشييد أقوى إمبراطورية إعلامية على كوكب الأرض من خلال فهم ما يريده جمهوره ثم تقديمه له دون مخافة أي ملامة. ولكن ما حدث في 19 نوفمبر 2020 أوقع مردوخ في ورطة. ليلتها خرج محامي ترامب رودولف جولياني أمام الكاميرات، وهو يتصبب عرقا إلى حد أن صبغة شعره السوداء أخذت تتقاطر ثم تسيل على خده، ليعلن أن جو بايدن اختلس الفوز من ترامب. وطوّح جولياني في الخيال بعيدا لما «كشف» عن مؤامرة بالغة الغرابة والتعقيد دبرها جورج سوروس ومؤسسة كلنتون وأعوان لهوغو شافيز لاختلاس الأصوات التي فاز بها ترامب وتحويلها إلى أصوات محتسبة في الفرز لصالح بايدن. كيف؟ بتضافر برمجيات شركة سمارتماتيك مع أجهزة اقتراع شركة دومينيون لأنظمة الاقتراع.
الورطة أنه كان على مردوخ أن يختار إما التأكيد على وجوب التزام نقل الوقائع كما هي، وإما الانسياق خلف جمهوره بلوغا إلى أقاصي بقاع نظريات المؤامرة. إلا أنه بقي أسابيع يتردد ويتجنب اتخاذ القرار. وهنا تبدي الجريدة ملاحظة ثاقبة، فتقول: الحق أن مردوخ بقي يتجنب اتخاذ القرار (الاختيار بين الإعلام والبروباغاندا) طيلة سنوات. وهذا من أسباب نجاح إمبراطوريته وكثرة أرباحها. ولما نقلت فوكس الوقائع غضب منها ترامب وأنصاره لأنها كانت أول شبكة تعلن فوز بايدن في ولاية أريزونا. كما أصبح ثمة شبكتان جديدتان تقدمان لهذا الجمهور الترامبي، أي لجمهور فوكس، ما يريد سماعه وتصديقه، وأخذت إحداهما (نيوزماكس) تحرز تقدما في نسب المشاهدة. وكانت وول ستريت جورنال (وهي أيضا من ممتلكات مردوخ) قد نقلت قبل أيام من خرجة جولياني خبر تبرع أنصار ترامب بأموال لنيوزماكس حتى تقوى على منافسة فوكس. ولهذا كتب مردوخ إلى المديرة سوزان سكوت يطلب منها الحذر في نقل أقوال جولياني، ولكن مع الحرص على تجنب مزيد من الاستعداء لترامب. إلا أنه سرعان ما تبين أن هذه المعادلة مستحيلة التحقيق. إذ ما أن أكدت مراسلة فوكس في البيت الأبيض كريستين فيشر أن مزاعم جولياني زائفة حتى أخذ مذيعو برامج الرأي والحوار ممن تبنوا مزاعم جولياني وترامب يتذمرون للإدارة قائلين إن علميات التحقق من صحة التصريحات والأقوال التي يجريها قسم الأخبار تغضب الجمهور وتبعده.
ويشير كل هذا إلى أن مردوخ أنهى التردد واتخذ قرارا بأن تضخم فوكس أكاذيب ترامب حول تزوير الانتخابات. لماذا؟ ألأن الشبكة تصدق هذه الأكاذيب؟ لا، أبدا. بل لأنها ترغب في الحفاظ على جمهورها بأي وسيلة. والدليل أن رسائل البريد الإلكتروني تظهر أن كثيرا من صحافيي فوكس ومذيعيها كانوا يسخرون من أكاذيب ترامب. بل إن المذيع الشهير تاكر كارلسون كتب أنه «يمقت ترامب أشد المقت».
تفسير هذه المفارقة هو أن عقودا طويلة أثبتت أن مردوخ لا يثمن جمهوره إلا بمعايير السلطة والمال. إذ لما سئل في إفادته للمحكمة: لماذا تتجنب استعداء ترامب بعد انتخابات 2020؟ أجاب: لأن عنده كثيرا من الأتباع، ومعظمهم من مشاهدي فوكس.
وهذا في عرف الإمبراطور مردوخ كاف لتبرير السقوط المخزي في سفاسف «الجمهور عاوز كده» والإمعان في ذلك إلى حد تسخير إمبراطورية التضليل الفوكسية في خدمة ديمقراطية التجهيل السعيدة بجهالتها.
القدس العربي