خصم الأمس… وسيط اليوم!
أعترف بفرط الحب تجاه السودان والسودانيين لاعتبارات عدة لا يتسع المقال لذكرها، وأعترف بأن ما نراه اليوم من مشاهد تأتينا من عموم السودان تدمي القلب، ليس بفعل الحب الذي ذكرت فحسب، وإنما لما كان من الممكن أن يكون عليه حال السودان اليوم، خاصة بعدما وصفته مجلة «الإيكونومست» مطلع القرن الحالي بأنه سيكون علامة فارقة في اقتصادات الدول الافريقية.
حال السودان تدهور وانزلق ومال وانعطف، واختلف وتقهقر لأسباب عدة وصولاً إلى انفصال جنوبه العامر بالذهب والماس واليورانيوم عنه، ووصولاً إلى اضطرابه السياسي ودخوله المحزن إلى نادي المطبعين العرب، أمام وطأة وعود إسرائيلية وأمريكية برفعه من قائمة الإرهاب دولياً، وحماية موارده المائية أمام بناء إثيوبيا لسد النهضة وتوفير منظومة حماية أمنية مزعومة وإسناد له في حربه ضد التطرف الديني وما يسمى بالإرهاب.
إسرائيل لن تكون وسيطاً ولا حكماً إلا في إطار ما يخدم مصالحها واستدامة تغلغلها في القارة الافريقية لأغراض تجسسية وعسكرية واقتصادية محضة
ومع هذه الوعود البراقة انتقل السودان من مربع الخصومة التاريخية مع إسرائيل إلى مربع «الألفة» الرسمية، مع دولة الاحتلال الصهيوني، في انتقال آلم الجميع لكنه حتما آلم الفلسطينيين أكثر من أي شعب آخر، ليس فقط باعتباره طعنة في الظهر، وإنما أيضاً لطبيعة الحالة الفلسطينية المتفاقمة والاعتداءات الإسرائيلية المتتابعة التي لم تهدأ يوماً، وإنما أخذت أشكالاً إجرامية متزايدة كانت تتطلب موقفاً عربياً متماسكاً وغير مسبوق. اليوم ومع تصاعد نيران الشقاق السوداني الذي ساهمت إسرائيل في إشعاله وتفاقمه، وتزويد طرفي الصراع بالسلاح والمعلومات الأمنية والاستخباراتية المختلفة ودورها في توظيف علاقاتها لاستغلال مناجم الذهب والموارد الطبيعية على اختلافها وتنوعها على سطح الأرض وباطنها، يقف السودان ملوماً محسورا نراقبه بعيون الألم والحسرة.
حسرتنا الأكبر أن نرى من كان الخصم في يوم من الأيام أن يصبح الحكم في محاولة للادعاء بالحرص على فض الخلاف بين طرفي الصراع. إسرائيل خصم الأمس أصبحت وسيط اليوم، ليولد شعورنا بالألم الصادم بوجود من هو مقتنع في الخرطوم بأن إسرائيل من الممكن أن تكون وسيطاً نزيهاً. إسرائيل لن تكون وسيطاً ولا حكماً إلا في إطار ما يخدم مصالحها وسطوتها وبقائها واستدامة تغلغلها في القارة الافريقية لأغراض تجسسية وعسكرية واقتصادية محضة.
والسودان الذي لا يمكن إلا أن يكون عربياً أصيلاً، لا بد أن يستعيد عافيته ويسير في مستواه الرسمي مع كل ما يحمله المستوى الشعبي من حب وتفانٍ يحتضنه الشعب السوداني الأصيل إزاء فلسطين وشعبها وقضيتها. فالحاضنة الوجدانية والأخلاقية والوطنية للسودان هي في صدور العرب النشامى، وليس في صدور المحتلين الغاصبين. إسرائيل التي تمارس باحتلالها ظلمها واحتلالها لشعب بأكمله لا يمكن أن تحمل الود والوئام تجاه شعب آخر.. فهل يعود السودان رسمياً إلى مساحة الخصومة مع الاحتلال؟ أم تتسع فعلياً دائرة التطبيع الرسمي؟ ننتظر ونرى…
كاتب فلسطيني
القدس العربي