ستبتسم سوريا بهمّة شبابها
حظِي مسلسل «ابتسم أيها الجنرال» بالكثير من الجدل والانتقادات والإشادات والإسقاطات والمطالبات. هذا رغم أنه لم يتناول مرحلة الثورة، والحرب الطاحنة التي أعلنتها السلطة الأسدية على الشعب تحت شعار: «الأسد أو نحرق البلد». قد تكون هذه المرحلة موضوعاً لجزء آخر من هذا المسلسل غير المعهود من جهة الجرأة في العالم العربي. ولعل ما يفسر المتابعة الواسعة لهذا المسلسل مشاهدة وإشادة ونقداً وتحليلاً، هو أنه حاول ضمن حدود المتاح تقديم صورة من الداخل لسلطة مافيوية قائمة أنهكت الشعب ودمرت الوطن، واستخدمت، وتستخدم، كل الأدوات والأساليب الوحشية والتنازلات الوطنية من أجل البقاء.
والجدير بالذكر في هذا السياق، هو أنه رغم حرص القائمين على المسلسل على تأكيد خيالية الأحداث والشخصيات، ربما لاعتبارات لها علاقة بأجهزة الرقابة والممولين وجهات التسويق ومحطات البث، فإن المشاهدين المتابعين له سرعان ما اكتشفوا تقاطعات كثيرة بين الأحداث التي تناولها المسلسل وتلك التي جرت في سوريا ولبنان، خاصة موضوع توريث الجمهورية بموجب الترتيبات التي كان الأسد الأب قد اتخذها قبل وفاته، وبناء على التوافقات الطوعية-الإجبارية التي كانت بين أركان الحكم من عسكريين وأمنيين والواجهات المدنية. بل لاحظ المشاهدون حتى وجه الشبه في الملامح الشخصية بين بعض الممثلين وقسم من أولئك الذين أسهموا في ترتيب عملية التوريث، البدعة غير المسبوقة في الجمهوريات العربية رغم مساوئها الكثيرة، وحتى على المستوى العالمي بهذا الشكل المفضوح ما عدا كوريا الشمالية بطبيعة الحال.
وبعيداً عن الانتقادات التي تناولت المسلسل من الناحية الفنية، وعدم التناسب بين خبرة الممثلين المحترفين والمستجدين، والمسائل التقنية الأخرى التي من الأفضل أن تترك لأصحاب الاختصاص والمطلعين على كواليس المسلسل ومصادر المعلومات؛ نرى أن المسلسل قد نجح على صعيد المتابعة الكثيفة له من جانب السوريين بصورة عامة، ومن جمهور عربي واسع. وهذا ربما يجد تفسيره في طبيعة الأسلوب غير العادي الذي اعتمده القائمون على المسلسل في عرض الأحداث، ودخولهم المساحات الخطرة جداً، وفق سياسات ومعايير الأنظمة الاستبدادية، بشجاعة استثنائية، وبلغة واضحة عارية لا تحتاج إلى التأويل أو التفسير.
الأمر المهم بالنسبة إلى هذا المسلسل غير المسبوق في الدراما السورية، بغض النظر عن كل الملاحظات التي سجلت، أو ستسجل حوله، وبمنأى عن التشكيك الذي تناوله، أو سيتناوله، فإنه قد أثبت قيمة القدرات الكبيرة المخزنة لدى السوريين، ووصولهم إلى حد الاستعداد للمجازفة بكل شيء في سبيل التعبير عن آرائهم بحرية، هؤلاء الذين أضطروا نتيجة عدم قبولهم بفساد السلطة الأسدية واستبدادها، بل إدانتهم لممارساتها، إلى الخروج من البلد، حفاظاً على أرواحهم، وسمعتهم، وبحثاً عن حريتهم.
فمنذ بدايات الثورة السورية أعلن الكثير من الفنانين السوريين والفنانات السوريات وقوفهم إلى جانب شعبهم، وتخلّوا عن الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها؛ وتحمّلوا التهديدات والحملات المغرضة التي تعرضوا لها. ولكن الأمر المؤسف هو أن مؤسسات المعارضة الرسمية لم تتمكن، لأسباب كثيرة يطول الحديث حولها، من استيعابهم، وعجزت عن تأمين الحد الأدنى من الشروط الضرورية لتمكينهم من الاستمرار في تأدية رسالتهم الفنية على ضوء التزامهم بأهداف ثورة شعبهم.
لقد هتك هذا المسلسل ستر الزمرة الحاكمة وكشف عن وجهها القبيح، ومكّن المشاهدين من الاطلاع على حقيقة السلوكيات الإجرامية التي اعتمدتها السلطة الأسدية، وما زالت تعتمدها منذ أكثر من نصف قرن، وماهية العلاقات المشبوهة التي نسجتها مع الجهات الخارجية، كل ذلك من أجل البقاء والتحكّم بمصير الشعب وموارد البلد.
كما ألقى المسلسل الضوء على جانب من الصراعات التناحرية ضمن زمرة الحكم، داخل الأسرة الأسدية نفسها وبين الضباط التابعين لها؛ وتناول في الوقت ذاته العلاقات الوثيقة بين السلطة الأسدية ومافيات الفساد وشبكات الإجرام، ورصد طريقة فبركة الجماعات الإرهابية، وتسويقها بأسماء وشعارات إسلاموية، استغلت لاحقاً لتشويه الثورة السورية، وأغراقها بجماعات مشبوهة، أسهمت في تشكيلها الأجهزة المخابراتية بهدف ترويع السوريين المطالبين بالحرية والكرامة والعدالة، ووضع العالم أمام خيارين سيئين هما: إما الإرهاب أو الاستبداد والفساد، وهذا ما أعطى المسوغات لتدخل الجيوش والميليشيات بذريعة محاربة الإرهاب الوظيفي المصنع من جانب السلطة المعنية وأجهزة مخابرات الدول.
ما ميّز مسلسل «ابتسم أيها الجنرال» عن غيره من المسلسلات السورية، أنه قدّم رسالته بعيداً عن أساليب الاختباء خلف الأحداث التاريخية، وتمجيد الماضي؛ أو الوقوف عند الفولكلور المتخيل المتماهي مع توجهات ومطالب السلطات، وتجاوز حدود المطالبات التقليدية المكررة، التي تكتفي عادة بالدعوة إلى تقويم الاعوجاجات في الهوامش، وتلتزم الصمت إزاء جرائم زمرة القرار. فالعمل الذي نتحدث عنه قطع تماماً مع عقلية تفريغ الشحنات التي همينت، وما تزال تهيمن، على الأعمال الدرامية السورية الحريصة على التزام الحدود التي يرسمها الرقيب، فهو على النقيض من الدراما السورية الرسمية إذا صح التعبير، يضع الناس في مواجهة واقع مرعب يتمثل في مدى استهتار الزمرة اللامرئية المتحكمة بالمجتمع والدولة والمصائر الشخصية للأفراد بعيدا عن جميع القيم والأعراف الأهلية، والالتزامات الوطنية، هذا ناهيك عن مبادئ حقوق الإنسان والمواثيق الدولية التي باتت في عالم اليوم من البدهيات.
سنترك موضوع نقد مسلسل «ابتسم أيها الجنرال» وتقييمه فنياً لأصحاب الاختصاص كما أسلفنا، لنركز في المقابل على أهمية الطاقات الإبداعية السورية الكبيرة في مختلف الميادين. وهي الطاقات التي لم تخرج في معظمها من مستوى الوجود بالقوة إلى مستوى الوجود بالفعل؛ وذلك نتيجة البيئة الخانقة الكابحة التي فرضتها السلطة على السوريين.
إلا أن هذه الوضعية قد تبدلت بعد الثورة، فاليوم نرى أن الشباب السوري في المهاجر قد حققوا الكثير من الإنجازات اللافتة المبشرة، وذلك بعد أن تحرروا من تأثيرات آليات التسطيح والقولبة والتلقين العقيم وتقنيات القمع؛ وامتلكوا المعارف، واطلعوا على المناهج العلمية المستقبلية المتبعة في التفكير والبحث العلميين، واطلعوا على تجارب الشعوب في ميدان التعامل مع التعدد والتنوع ضمن إطار وحدة الشعب والوطن.
إلى جانب هؤلاء الشباب، هناك مئات الآلاف من الأطفال السوريين الذين يكتسبون أحدث المعارف، وبأرقى المناهج والأساليب التربوية في مختلف أنحاء العالم، لا سيما في الدول الأوروبية؛ وهذا فحواه أن هذا الجيل الجديد المتميز من السوريين سيكون حجر الأساس في بناء سوريا المستقبل التي ستضمن العيش الحر الكريم لسائر مواطنيها من دون أي استثناء أو تمييز، بعد الخلاص من رجس الزمرة الآثمة التي دمرت العمران، وحولت الاجتماع إلى حطام.
اليوم هناك نشاط سوري متميز في المهاجر يشمل مختلف الميادين العلمية والفنية والسياسية والاقتصادية والمهنية، وهو نشاط يثير الاهتمام، ويجدد الأمل، وسيكون له دور هام مستقبلاً إذا ما تم تنظيمه ضمن مؤسسات مهنية قادرة على التنسيق في ما بينها بغية تذليل العقبات وتبادل الخبرات والمعارف، وتحقيق صيغة من التكامل بين مختلف الاختصاصات؛ وبناء العلاقات مع المؤسسات الدولية التي ترعى الجهود الإبداعية وتدعمها، وتلك التي تدافع عن حقوق الإنسان، والتواصل مع المؤسسات الإعلامية، ومفاصل التأثير في الرأي العام، وتمتين الأواصر مع الداخل الوطني؛ فكل ذلك سيؤدي إلى التأسيس لرؤية سورية جديدة، تتحرر من النزعات العصبية بأشكالها المتباينة، وتتعامل مع الظواهر والمعطيات بعقلية نقدية، تساهم في عملية التحرر من الأوهام والأضاليل.
ومع تشكّل هذه الرؤية السورية الجديدة ستصبح إمكانية بناء منظمات المجتمع المدني، والأحزاب السياسية الوطنية الجديدة إمكانية واقعية مجدية؛ ومن المأمول أن تركز هذه المنظمات والأحزاب على البعد الوطني السوري، وتستفيد في برامجها وتوجهاتها من التجارب والأخطاء التي كانت، لتؤكد أهمية ترميم النسيج المجتمعي الوطني السوري بتنوعه وتعدديته، وتعمل لتحقيق ذلك من خلال إزالة الهواجس بعقود مكتوبة، وتعزيز أواصر الثقة بممارسات وسلوكيات تترجم واقعا على الأرض، ووضع الضوابط لإدارة الخلافات بهدف وضع الحلول عبر تدوير الزوايا، والتركيز على نقاط الاتفاق، وترحيل نقاط الخلافات لمعالجتها مستقبلاً.
وكل ذلك من شأنه التمهيد للوصول إلى توافق وطني عام، يقوم على احترام الخصوصيات، والاعتراف بالحقوق، والتأسيس لمشروع وطني سوري جامع يقطع مع سائر أشكال التطرف سواء الديني أم القومي أو المذهبي والأيديولوجي، ويفتح الطريق أمام نظام حكم عادل، يعتمد آليات المساءلة والمحاسبة الشفافة لسد الطريق أمام الفساد والاستبداد.
*كاتب وأكاديمي سوري
القدس العربي