صراع العسكرتارية السودانية فرصة لتحقيق الديمقراطية
بات من الواضح أن صراع العسكرتارية الدموي في السودان على السلطة لن يُحسم لصالح حميدتي ومليشياته أو البرهان ووحدات الجيش التي تدعمه، ورغم الكلفة الإنسانية والمادية الباهظة لصراع العسكر والخشية من تحول الصراع إلى حرب أهلية مدمرة وممتدة، لكن ثمة فرصة حقيقية للدخول في أفق التحول الديمقراطي في السودان الذي عمل على إجهاضه كلا طرفي النزاع العسكرتاري. فقد برهنت ثورات الربيع العربي أن وحدة المؤسسة العسكرية تشكل وبالاً على الثورة والتغيير من خلال قيادة العسكر ثورة مضادة مسندة من قوى دولية وإقليمية معادية للديمقراطية؛ تفضي إلى عودة الدكتاتورية وترسيخ الاستبدادية وقمع القوى المدنية والحركات الثورية.
على خلاف معظم التحليلات المتشائمة حول مستقبل الديمقراطية في السودان التي تذهب إلى التبشير بنهاية الديمقراطية نتيجة الاقتتال بين أطراف العسكرتاريا، فإن الحقائق تشير إلى نقيض ذلك، فالاتفاق بين مكونات المؤسسة العسكرية ووحدتها هو ما يهدد الديمقراطية، والخلاف والصراع بين العسكر قد يؤدي إلى خلق فرصة للانتقال إلى الديمقراطية.
الاقتتال دون حسم الصراع لأحد الأطراف بين القوات المسلّحة النظامية بقيادة عبد الفتّاح البرهان و"قوات الدعم السريع" بزعامة محمد حمدان دقلو، سوف يؤدي إلى إضعاف كليهما من ناحية القدرة القتالية ومن مناحي طلب الشرعية، وهو ما سيفضي بالعسكر إلى تقديم تنازلات للقوى المدنية والثورية
فالاقتتال دون حسم الصراع لأحد الأطراف بين القوات المسلّحة النظامية بقيادة عبد الفتّاح البرهان و"قوات الدعم السريع" بزعامة محمد حمدان دقلو، سوف يؤدي إلى إضعاف كليهما من ناحية القدرة القتالية ومن مناحي طلب الشرعية، وهو ما سيفضي بالعسكر إلى تقديم تنازلات للقوى المدنية والثورية، وهو ما ظهر جلياً من خلال دعوة البرهان إلى أن يتنحى هو وحميدتي عن السلطة، ومن خلال إصرار كليهما على تبادل الاتهامات بإعاقة التحول الديمقراطي. ولا جدال في أنهما معاً لا يتمتعان بالمصداقية، ولا تعدو دعواتهما إلى الديمقراطية عن كونها لعبة بائسة لكسب الوقت وجلب تعاطف القوى المدنية والثورية.
تشير التجارب القريبة والبعيدة إلى استحالة تحول الجنرالات إلى ديمقراطيين بين ليلة وضحاها، إذ لا تعدو الديمقراطية بالنسبة للجنرالات عن كونها لعبة سخيفة وشعارا أجوف وأداة تلهية مثيرة للانقسام وتفتيت الأمة. فالأمة المتخيلة جوهرها الجيش في المخيال العسكري، ومن المؤكد أن البرهان وحميدتي لم يكلفا نفسيهما عناء قراءة كتيب عن الديمقراطية، فالديمقراطية في قاموس العسكرتارية مجرد تكتيك داخلي للتفتيت بإثارة الانقسامات الأيديولوجية والنزاعات القبلية والجهوية بين القوى المدنية والثورية بهدف التحكم والسيطرة.
كما أن الديمقراطية تكتيك خارجي لمداعبة خيال غربي استشراقي لا يؤمن أصلاً بتحقق الديمقراطية في أي بقعة خارج مركزيته ونرجسيته الاستعلائية، فحديث الثقافة وخطاب الجوهرانية والسكونية محددات لازمة للعقل الغربي، فالديمقراطية سمة احتكارية غربية، وهي أداة مفيدة تُستخدم للهيمنة، فقد دعمت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي كافة الانقلابات على ثورات الربيع العربي في المنطقة؛ من مصر إلى تونس تحت ذريعة استعادة الديمقراطية.
برهنت ثورات الربيع العربي على الأنظمة الاستبدادية أن المعضلة الأكبر التي تواجه الثورات في البلدان غير الديمقراطية لإنجاز تحول ديمقراطي؛ تتمثّل في المؤسسة العسكرية التي تستخدم كافة الوسائل للاحتفاظ بالسلطة، وأكدت مسارات الثورة السودانية تلك الحقيقة
برهنت ثورات الربيع العربي على الأنظمة الاستبدادية أن المعضلة الأكبر التي تواجه الثورات في البلدان غير الديمقراطية لإنجاز تحول ديمقراطي؛ تتمثّل في المؤسسة العسكرية التي تستخدم كافة الوسائل للاحتفاظ بالسلطة، وأكدت مسارات الثورة السودانية تلك الحقيقة. فالكيانات العسكرية في السودان المتمثلة بقوة الدعم السريع والمجلس العسكري دأبت على إفشال وعرقلة مسارات التحول الديمقراطي للحفاظ على مصالحها وترسيخ قبضتها على السلطة، وتجاوز التغيرات السياسية التي أعقبت ثورة كانون الأول/ ديسمبر 2018. فقد تواطأت قوة الدعم السريع والمجلس العسكري في التخطيط لانقلاب 2021 وتنفيذه، ولم تدّخر هذه القوى جهداً في تخريب المسار الانتقالي للسودان صوب الديمقراطية؛ بدءا من مجزرة فضّ اعتصام القيادة العامة في 3 من حزيران/ يونيو 2019، وختاما بالانقلاب في 25 من / تشرين الأول/ أكتوبر 2021.
على خطى العسكرتاريا العربية الانقلابية برر قائد الانقلاب الجنرال عبد الفتاح البرهان أفعاله باستعادة الديمقراطية، ففي خطاب موجّه إلى الأمة في 25 تشرين الأول/ أكتوبر، كرر التزامه بـ"المسار الدستوري" وبـ"اتفاق جوبا للسلام" لعام 2020 المبرم مع مختلف الجماعات المتمردة. وسعى البرهان، الذي كان سابقاً القائد الفعلي للدولة قبل أن يقود الانقلاب، إلى تصوير التحرك العسكري على أنه "تصحيح" للعملية الانتقالية، مشدداً على أن الثورة كانت في خطر ومتعهداً بتعيين حكومة تكنوقراطية ستقود البلاد إلى انتخابات ديمقراطية في تموز/ يوليو 2023.
لم تكن حيلة البرهان جديدة ومبتكرة، حيث ردد المتظاهرون الديمقراطيون ضد الانقلاب العسكري شعار "البرهان، البرهان، عد إلى السيسي!".
لم يكن الانقلاب العسكري 2021 الذي وقع في السودان بانهيار التسوية الهشة والفاسدة بين المؤسسة العسكرية والقوى المدنية والثورية التي تم التوصل إليها في صيف 2019، سوى صفقة تكتيكية بائسة لإجهاض العملية الثورية الشعبية التي أطاحت بالرئيس عمر البشير.
وقد كشفت مواقف الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية عن نفاق خطاب الديمقراطية، حيث فشل مجلس الأمن مرات عدة في التوصل إلى إجماع على بيان يتم إصداره بشأن الأحداث في الخرطوم، وعندما صدر بيان أخيراً في 28 تشرين الأول/ أكتوبر، وصف مجلس الأمن الدولي ما حدث في السودان بأنه "سيطرة على السلطة" وليس انقلاباً. وهو ما سبق أن حدث في مصر عندما وصفت الولايات المتحدة انقلاب الجيش بعملية استعادة للديمقراطية، وهو ذات الموقف في تونس.
وهذه مواقف براغماتية تستند إلى رؤية ثقافوية للمنطقة تعزز تحقيق المصالح الغربية، فمنح الشرعية الغربية للمؤسسة العسكرية رهن بانصياعها والتزامها بالمصالح الجيوسياسية الغربية، وهو ثمن دفعته العسكريتاريا السودانية بسخاء بالتوجه نحو مزيد من السياسات النيوليبرالية التي كانت سبباً في الأزمة، وعقد اتفاقية التطبيع سيئة السمعة مع الكيان الاستعماري الصهيوني المعروف بإسرائيل عندما وقعت "اتفاقات أبراهام" في كانون الثاني/ يناير 2021، وهو ما منح العسكر شرعية وعودة إلى بيت الطاعة الغربي، وذلك بإعادة فتح الباب أمام القروض، ورفع العقوبات، وإزالة السودان من قائمة الولايات المتحدة للدول الراعية للإرهاب، بل إن حكومة المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية عرضت مبادرة للصلح بين حلفائها الجدد من الجنرالات المتحاربين.
لم يكن الصدام بين مكونات العسكرتاريا السودانية مفاجئاً، فقد كانت شروطه وأسبابه حاضرة منذ البداية، لكن الانقسام السياسي والاستقطاب والاتفاق الإطاري الموقع بين المكون العسكري وقوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي، من الأسباب التي عجّلت بالصدام العسكري بين البرهان وحميدتي، حيث منح الاتفاق قوات الدعم السريع وضعا موازيا للجيش، مما استفز المؤسسة العسكرية
لم يكن الصدام بين مكونات العسكرتاريا السودانية مفاجئاً، فقد كانت شروطه وأسبابه حاضرة منذ البداية، لكن الانقسام السياسي والاستقطاب والاتفاق الإطاري الموقع بين المكون العسكري وقوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي، من الأسباب التي عجّلت بالصدام العسكري بين البرهان وحميدتي، حيث منح الاتفاق قوات الدعم السريع وضعا موازيا للجيش، مما استفز المؤسسة العسكرية. كما حاولت قوى المجلس المركزي الاستئثار بالسلطة على حساب القوى السياسية الأخرى، والاستنصار بقوة حميدتي العسكرية ونفوذه في الدولة وثقله المالي.
وعلى خلاف النظرة التشاؤمية، فإن ما حدث يعزز من فرص الديمقراطية في ظل عجز المكونين عن حسم الصراع بالقوة، فقد دفع الصدام القوى الدولية والإقليمية المناهضة للثورة السودانية لمراجعة حساباتها لتحقيق قدر من الاستقرار للحفاظ على مصالحها الأمنية والجيوسياسية، وقد تدفع باتجاه تحييد دور الجنرالين البرهان وحميدتي في الحياة السياسية، ونقل السلطة إلى حكم مدني وراءه قاعدة سياسية عريضة، تمكنه من الاستقرار والتصدي لتحديات البلاد وتهيئتها لانتخابات حرة ونزيهة.
يشكل السودان حالة فريدة من حيث التركيبة العسكرية والجماعات المسلحة والعلاقات المدنية العسكرية، فانقسام المؤسسة العسكرية يتيح للقوى المدنية والثورية مساحة أكبر للمناورة والتفاوض. وفي نهاية أي نظامٍ كان فيه للجيش أهمية سياسية، فإن السؤال الحاسم هو ما إذا كان القادة المدنيون الجدد سيكونون قادرين على كبح جماح القوات المسلحة.
صراع العسكرتارية في السودان قد يشكل فرصة وأفقاً للتحول الديمقراطي، ويدشن حقبة جديدة من موجات الربيع العربي الذي أجهضته وحدة المؤسسة العسكرية في مواجهة القوى المدنية والثورية
فحسب غييرمو أودونيل فإن "المشكلة الرئيسية في تعزيز الديموقراطية هي أن تمنع انقلاباً عسكرياً ناجحاً"، وهو ما نجحت فيه تركيا 2016 وفشلت فيه مصر 2013، وتبدو الحالة السودانية متأرجحة بين النجاح والفشل، لكن انقسام وصراع العسكرتاريا يشي بولادة نموذج هجين، يمهد لاحقاً لتحول ديمقراطي عسير، فالجيوش في أوضاع ما بعد انتهاء المرحلة الانتقالية في كثير من الأحيان تمثل بديلاً مهدداً للديموقراطية. ففي كل من عامي 1964 و1985 أدت التحركات الشعبية في السودان لانهيار الحكم العسكري. ومع ذلك، فإن الجنرالات عادوا للسلطة في عام 1969 وفي عام 1989.
خلاصة القول أن الصدام بين مكونات العسكرتارية السودانية يشكل فرصة حقيقية للتحول الديمقراطي، فالقتال بين طرفي المؤسسة العسكرية سوف يؤدي إلى إضعافهما واستنزاف قواهما، لا سيما أن القوى الدولية والإقليمية لا ترغب بتقديم دعم عسكري لأحد أطراف العسكرتاريا خشية من تفاقم عدم الاستقرار وتداعياته الأمنية والجيوسياسية، وفي ظل عجز واستحالة إحدى القوتين عن حسم الصراع وفرض واقع جديد، فإن كلا الطرفين المتصارعين سوف يسعى لتقديم تنازلات للقوى المدنية والثورية، وقد يدفع بعض قواعد ومكونات المؤسسة العسكرية الانحياز إلى قوى التغيير والثورة، ويساهم في تعزيز نقمة الجماهير من النخبة العسكرية ويقودها إلى الإطاحة بحكم العسكر وإحلال الديمقراطية.
وبهذا فإن صراع العسكرتارية في السودان قد يشكل فرصة وأفقاً للتحول الديمقراطي، ويدشن حقبة جديدة من موجات الربيع العربي الذي أجهضته وحدة المؤسسة العسكرية في مواجهة القوى المدنية والثورية.
عربي 21