هكذا أصبح التدخل الخارجي في شؤون الغير شرا لا مفر منه
عندما اختار الرئيس التونسي قيس سعيّد رفض شروط القرض الأخير من صندوق النقد الدولي الشهر الماضي، قال بكبرياء واضح ونبرة حادة إن تونس «دولة ذات سيادة ترفض أن يملي عليها أحد شروطه المُذلَّة».
ورقة السيادة الوطنية والمؤامرة الخارجية ورفض التدخل الأجنبي في شؤون تونس واحدة من الأوراق المفضلة لدى سعيّد في دفاعه عن نهجه بعد تموز (يوليو) 2021 وجنوحه نحو الحكم الفردي المطلق.
سعيّد ليس الرئيس العربي الوحيد في التلويح بالتدخل الأجنبي أو في استعمال هذا الشعار ذريعة لسحق خصومه وتكريس نظام حكم مستبد. هو آخرهم فقط. سبقه بعضهم وسيليه آخرون طالما بقي هذا الشعار مفيدا في دغدغة عواطف عامة الناس ومدِّهم بالشعور بالعزة والفخر الوطني.
خلال السنوات العشر الأخيرة تفوَّق الحكام العرب وأذرعهم في نفخ هذا الخطر والتحذير منه وادعاء الصمود في وجهه. أحد أبرز هؤلاء الرئيس بشار الأسد منذ 2011، ثم عبد الفتاح السيسي غداة انقلابه العسكري في صيف 2013. وتمتد الحلقة حتى إلى ليبيا التي «هدد» قادتها برفض التدخل الخارجي في شؤونها بينما كان نصف العالم قد استباحها وانتهى بطلب من هؤلاء القادة الليبيين ذاتهم!
سيكون من الغباء إنكار وجود قوى أجنبية، غربية وشرقية، تتربص بالدول العربية (وغيرها) وتتدخل في شؤونها، لكن القضية ليست بالتسطيح الذي نراه يوميا.
العولمة بكل تشعباتها ومخاطرها وتداخل المصالح الاستراتيجية جعلت من هذا التدخل، بأشكاله المتنوعة، أمرا واقعا لا أحد يستطيع منعه عندما تتوفر أسبابه. على مَن يعجز عن التصدي له أن يتعلم العيش معه والتخفيف من أضراره. اليوم الكل يتدخل في شؤون الكل، والكل يشتكي من الكل. لم يعد الأمر مقتصرا على دول قوية تتدخل في شؤون دول ضعيفة. الرئيس ماكرون اشتكى من تدخل أمريكا في قضايا أوروبا. أمريكا اشتكت من تدخل روسيا في انتخاباتها الرئاسية والنصفية. بروكسل تتدخل في شؤون الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وتُملي عليها قرارات وتوجيهات.
أما الصيغة التقليدية للتدخل فهي أن القوى الكبرى في أمسِّ الحاجة للخيرات والموارد الطبيعية لتنمية اقتصاداتها وتعزيز قوتها ومكانتها. هذه الموارد متوفرة غالبا في الدول العربية وفي دول آسيا وإفريقيا الفقيرة والمستبدَّة غالبا. لذلك ليس أسهل على هذه القوى الأجنبية من التوجه نحو هذه الأهداف لتأمين حاجاتها وأكثر.
قديما كان الغرب وحده يلهث وراء خيرات العالم الفقير وقد استنزف منها حد التخمة. اليوم دخلت على الخط قوى جديدة ممثلة في الصين وروسيا وتركيا وحتى الهند.
هناك طريقة للحصانة من هذا التدخل وليس منعه: تقوية الجبهة الداخلية عبر التصالح مع الشعوب بإنقاذها من براثن الفقر والطغيان السياسي والأمني والاقتصادي
أكثر من الخيرات والموارد الطبيعية، تحتاج القوى الدولية الكبرى إلى الانتشار والتموقع عبر العالم. وفي بحثها عن الانتشار تخوض جهد البحث عن حلفاء وشركاء في العالم الثالث ممثلا في إفريقيا وآسيا. وتأمين الحلفاء في هذه الأجزاء من العالم يحتاج إلى الإغراء والترهيب معا. سلاحان لا يتركان للطرف المقابل هامشا للحركة، بسبب ظروفه الداخلية التي غالبا ما تكون هشّة و«مثقوبة» تُسهِّل ليَّ ذراعه.
لحد الآن أخذ التدخل الخارجي في شؤون الدول الضعيفة شكلين: ضغط لفظي في شكل بيانات تنديد وتوجيه في الوسع، وتحرك عملي ميداني، سرِّي أو علني، عندما تتأزم الأوضاع. يمتلك قادة الدول المستهدفة ترف الردّ اللفظي والعنتريات الكلامية حفاظا على صورة بلادهم وسمعتهم الشخصية، لكنهم غالبا ما يعجزون عن التصدي للتحرك العملي فيضطرون للتوسّل والتفاوض السري.
على القادة العرب والشعوب كذلك إدراك أن التدخل الأجنبي في شؤونهم يصبح أمرا لا مفر منه في ظروف داخلية معيَّنة متوفرة حاليا في أغلب الدول العربية. عندما تكون دولتك عاجزة ونظام حكمك ديكتاتوريا وفي صراع مع نصف شعبك أو كله، واقتصادك على وشك الانهيار وشعبك لا يحلم إلا بالهجرة وأجهزتك عاجزة عن بسط سيطرتها الإيجابية على البلاد، تفقد تلقائيا حقك في رفض التدخل الخارجي. في هذه الحالة أنت توفر وصفة مثالية لتدخل الأجانب في شؤونك ولأكثر من سبب. سيأتي مَن يبحث عن وقف الهجرة غير النظامية نحو أراضيه. وسيأتيك مَن يزعم أنه يريد التصدي لخطر الإرهاب والجهاديين قبل أن يتمدد نحو مصالحه. وهناك الذي يسيل لعابه على خيراتك. وسيأتي مَن يبتزك بداعي أنه يريد حماية شعبك من قمعك.
لا توجد دولة عربية واحدة تستطيع الصمود في وجه كل هذه الضغوط المستمرة والمتنوعة. ويصعب إيجاد دولة خالية من شروط وإغراءات التدخل الأجنبي فيها. بعض الدول العربية تتوفر فيها الوصفة كاملة، وأخرى تتوفر فيها بعض مكونات هذه الوصفة.
الدول المُعرَّضة للتدخل ذاتها يحق لها التدخل لدى الغير إذا ما دعت الضرورة. فحماية المصالح القومية للبلدان تبدأ أحيانا خارج أراضيها. لا أحد يستطيع لوم مصر اليوم على حشر أنفها في السودان لأن الحريق الذي يلتهمه خطر على مصر قبل غيرها. وكذلك حال الجزائر مع ليبيا وتونس. ولا أحد يلوم إريتريا إذا ما ارتأت التصرف حيال الصراع في إقليم تيغراي بشمال أثيوبيا، أو باكستان إذا ما قررت مدَّ رجليها قليلا داخل أفغانستان. في مثل هذه المواقف والأخطار يصبح التأخر عن الحركة عبثا وربما خيانة، ويكون ثمن التحرك غالبا أقل سوءا من الجمود.
الإشكال في موضوع التدخل الأحنبي أنه ورقة ابتزاز ومساومة. في حالتنا، «الخارج» يبتز الحاكم المحلي، وهذا الأخير يبتز شعبه بحجة التصدي لـ«الخارج». هنا يبرز نفاق الحاكم العربي، فهو لا يمانع التدخل الأجنبي عندما يكون في صالحه ولأجل تكريس كرسيه وأركان حكمه، لكنه يرفضه ويقيم الدنيا إذا كان تحت مزاعم الحريات وحقوق الإنسان. بل أن بعض التدخل يحدث بطلب من الحكام أنفسهم، لكنهم يجدون له التعليب المناسب مثل التعاون والشراكة.
هناك طريقة للحصانة من هذا التدخل وليس منعه: تقوية الجبهة الداخلية عبر التصالح مع الشعوب بإنقاذها من براثن الفقر والطغيان السياسي والأمني والاقتصادي. ساعتئذ لا أحد يجرؤ أو يفكر في التدخل في قضاياك الداخلية. هل تجرأ أحد على التدخل في شؤون نيوزيلاندا أو سويسرا أو إسبانيا بالذرائع نفسها التي يجري التدخل بها في شؤون العرب؟
كاتب صحافي جزائري
القدس العربي